TOP

جريدة المدى > عام > اشتراكية كورونا .. أو كيف نرى العالم من نافذة المصح؟

اشتراكية كورونا .. أو كيف نرى العالم من نافذة المصح؟

نشر في: 31 مارس, 2020: 05:25 م

أوس حسن

في العصور البدائية، مذ أبصر الإنسان الأول شمس الخليقة على هذا الكوكب، ظل في صراع دائم مع الطبيعة والأخطار المحدقة به،

فكانت دهشة اكتشافه الأشياء لأول مرة، تمتزج بخوفه وغربته عن هذا العالم المقذوف إليه، وظل منذ أزمنة سحيقة يحاول ترويض الطبيعة، تطويعها دون أن ينتصر عليها، فكان مجمل اكتشافات الإنسان وابتكاراته منذ العصر الحجري إلى عصرنا التكنولوجي، هي محاولات لإخضاع الطبيعة لمصالحه وحروبه، لكن في كل عصر من العصور الغابرة، كانت للطبيعة نواميسها القاسية، تلك النواميس التي أرخت لنا ذاكرة حية من الخوف البشري. أسلافنا البدائيون نقشوا على جدران الكهوف رسوماتهم التي تحكي أحداث وتفاصيل حياتهم اليومية في مواجهة الأخطار والمخاوف، لتأتي المجتمعات الزراعية والحضارات وتدون أعمال الإنسان من خير وخطايا وفروسية في الملاحم والأساطير.

كانت حاجة الإنسان إلى قوة خارقة تحميه، حاجة روحية مرتبطة ارتباطاً جينيا ً بالوراثة وتطور سلالات الجنس البشري منذ فجر البدايات إلى يومنا هذا الذي تتجه فيه حتى مناحي الإبداع، كالشعر، والرسم، والنحت، والموسيقى لتكوّن سلسلة من الطقوس التطهيرية ترمم الخراب الروحي في عصر الآلة والاستعباد الرأسمالي.

فالإنسان في كل زمان ومكان هو ذاته لم ينتصر على الطبيعة، وظل دائما ًعدواً لما يجهل، فلا فرق بين أسلافنا البدائيين، وهم يرتجفون في العراء ويناجون بطلاسمهم الغامضة قوة خفية، وبين غريب خلف الجدران، يشكو للإله الواحد ضعفه، ويبكي بقلب مبلل بالأسى. 

في اللامرئي تكمن الحقيقة 

يبدو أن العالم بكل تطوره التكنولوجي والعلمي حتى هذه اللحظة، وقف عاجزاً أمام صنع لقاح فعال ضد فيروس كورونا، الذي لا يرى إلا بعد مئات المرات من تكبيره في المجهر، كائن لا مرئي زلزل العالم، و أحدث شرخا ً في اقتصاده، وبث الرعب في نفوس كبار التجار والسياسيين والمشاهير، حتى صارت العزلة ملاذا ً آمنا ً، وأعلن كوكب الأرض لأول مرة في تاريخه عطلة وتوقفا ً شبه تام عن الحركة، وربما سيدخل في سبات طويل أو قصير، حتى يعود مرة ثانية للعمل بجسد أقوى، وبنفس أكثر توهجاً وسمواً.

كورونا لم يستثن أحدا ً من كبار قادة وحكام العالم ومن كبار المشاهير والرياضيين، وكأنه أراد بذلك أن يعيد للأذهان حجم البشرية الحقيقي، وهي ماضية في أوهامها وجبروتها.

نسيت الدول مشاكلها السياسية وخلافاتها، وصار كورونا الإسم الأكثر شهرة، ولفتاً للانتباه في نشرات الأخبار ومواقع الانترنت وأحاديث الناس في الشارع، وصار الهلع الذي يثيره اسم كورونا أكثر هلعا ً من وحشية داعش والتنظيمات الإرهابية، حتى باتت تفاصيل حجر المشتبه باصابتهم تشبه إلى حد كبير تفاصيل اعتقال الإرهابيين والمجرمين. 

المتدينون والمؤمنون بحقيقة ثابتة وواحدة سيعلنون أمام الملأ بثقة مطلقة: .. إن هذا الفيروس هو علامة من علامات الله لعقاب البشرية على أخطائها، كما عاقب من قبلهم الأمم والشعوب بالكوارث والفيضانات والزلازل.

وسيقول الملحدون أو المؤمنون إيمانا ً دوغمائياً بالعلم: .. إن هذا الفيروس هو طفرة دالة على صحة نظرية داروين في التطور والانتخاب الطبيعي والصدفة هي المحرك الأساس في كل خلق وتطور.

وسيقول المشككون والمولعون بالعقائد السرية: .. ربما يكون مصدر هذا الفيروس من سلالات فضائية غريبة وهذا دليل على نهاية العالم أو حرب النجوم المنتظرة.

ما بين اليتوبيا والدستوبيا كيف يمكننا أن نفكر بطريقة صحيحة وسليمة؟ كيف يمكن للمخيلة المقرونة بالتأمل والمعرفة أن تعيد بناء الإنسان بعد انهياره وسقوطه الحتمي؟

ثم كيف يمكننا أن نستنطق الفلاسفة وكأنهم معنا الآن، أو عايشوا تلك الأزمة من قبل؟

فسارتر سيؤكد لنا حتمية العبث في الوجود، واستحالة وجود معنى حقيقي يدفع الإنسان للاستمرار في رحلة الحياة التافهة. وشوبنهار سيتضح برهانه على أن الحياة شر كبير، ولا شيء سوى التشاؤم ونيتشه سيرقص جذلا لأن الإنسان سيجد سعادته الحقيقية بعد وقوفه على حافة هذا الخطر، وسيبشر بولادة عالم جديد تحكمه السلالات المتفوقة والذكية.

أما كارل ماركس سيعلن ولادة الشيوعية مرة أخرى بكامل تجلياتها في العالم، ليس من دكتاتورية البروليتاريا، ولا من ثورات الفقراء والمضطهدين، وإنما من فيروس لا يرى بالعين المجردة الفيروس الذي أحدثً شرخا ً في ديالكتيك هيغل، وانتصر لديالكتيك ماركس المادي.

أنه فيروس كورونا، الفيروس الأممي الأحمر.

كيف نرى العالم من نافذة المصح 

الحدث الغريب الذي اجتاح العالم سنة 2020 وما سيحدثه من تغيرات وتطورات، سيثبت لنا أن التاريخ في حركة دائمة ومستمرة، رغم أننا نعيش في عصر الصورة، العصر الذي أصبح فيه التاريخ مرئيا ً في الحاضر، من خلال تقنيات الميديا، ووسائل التواصل الاجتماعي. 

هذا الحدث سيحدث طفرة نوعية في حياة سكان الأرض، نعم فالعالم المريض سيتعافى ليعود أقوى، فتاريخنا مع الحروب والأوبئة يحدثنا بذلك، بعد فترة من الزمن ستصبح كارثة كورونا محرابا ً للفن، وستقرأها الأجيال القادمة في الكتب والروايات، وستخلد في اللوحات الفنية والأعمال السينمائية، فلا بد من الخطر ليولد إنسان نيتشه المتفوق، ولا بد من الكارثة لنقرأ الآن تاريخ المستقبل.

في العزلة تتجلى الرؤى أكثر؛ لنعيد حسابات الماضي، وفي الأوهام التي قدسناها، وهذا تماما ما يحصل مع المريض عندما تنشطر حياته إلى نصفين؛ ليرى أضواء المدينة اللامعة كما لم يرها من قبل، وحركة الغيوم السابحة في الأفق، وتعاقب الفصول والطيور التي تتوارى بعيدا ً في الغروب، لينصت ويستمع إلى كل الأصوات كما لم يستمع إليها من قبل، ثم توقظه شمس السماء الواسعة في الصباحات كما لم توقظه من قبل، ليبصر بعيداً من نافذة المصح هذا الكم الهائل من السراب، السراب الذي منعه من حياة لم يعشها.

الحياة التي ظلت مستيقظة هناك...

وحيدة.... وبعيدة ....

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

مقالات ذات صلة

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة:  صفقة مع الخطر
عام

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة: صفقة مع الخطر

ألِكْس كورمي* ترجمة: لطفية الدليمي بينما أكتب الآن هذه الكلمات يرسلُ هاتفي النقّالُ بطريقة لاسلكية بعضاً من أعظم ألحان القرن الثامن عشر (مؤلفها الموسيقار العظيم باخ لو كنت تريد معرفة ذلك!!) إلى مكبّر الصوت...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram