TOP

جريدة المدى > عام > ماالأدب ؟

ماالأدب ؟

نشر في: 31 مارس, 2020: 05:28 م

ترجمة وتقديم: لطفية الدليمي

أقدّمُ أدناه، وفي أقسام متسلسلة لاحقة، ترجمة للفصل الأوّل من الكتاب المعنون (الأدب: لماذا يهمّنا؟ Literature : Why It Matters ?)

لمؤلفه البروفسور روبرت إيغلستون Robert Eaglestone . الكتاب منشور عام 2019، ويمكن للقارئ الشغوف مراجعة كتابي المترجم (الرواية المعاصرة: مقدمة وجيزة) المنشور عن دار المدى لكي يتحصّل على تعريف مسهب بالبروفسور روبرت إيغلستون وأعماله المنشورة.

المترجمة

القسم الثاني

تضمُّ هذه الإستعارة (أي كون الأدب محادثة حوارية حيّة، المترجمة) معظم الأطروحات التي قيلت بشأن تعريف الأدب. هاهُوَ (هكتور) ، المعلّم الإنكليزي الأبعد مايكون عن المثال المباشر للمعلّم كما عهدناه، في المسرحية ذائعة الصيت فتيان التأريخ The History Boys ( 2004 ) للكاتب ( آلان بينيت Alan Bennet) ، يقول بأنّ أفضل لحظات القراءة هي تلك التي تعثر فيها صدفةً على شيء ما: فكرة ، شعورٌ ، طريقة في النظر إلى الأشياء، ترى فيه شيئاً ثميناً ومميزاً ذا فرادة خاصة بالنسبة لك . ستقولُ حينئذ لنفسك : هاهو الأمر إذن ، ذاته الذي حسبتهُ ذا أهمية استثنائية ، قد قيل على لسان شخصٍ آخر ، شخص لم أقابله من قبلُ أبداً ، شخص ربما قد شبع موتاً منذ زمن بعيد ، ويبدو أمرك مع القراءة حينئذ وكأنّ يداً قد امتدّت لتشتبك مع يدك لتسحبك نحوها ( 2 ) . 

سأعود لتناول هذا الأمر لاحقاً ؛ لكنّ هذه المقاربة بشأن الأدب تُرينا جانباً مفصلياً بيّناً واحداً من بين الجوانب الكثيرة التي تنطوي عليها فكرةُ أنّ الأدب محادثةٌ حيّة ، وهذا الجانب المفصلي هو كون الأدب فعلاً تواصلياً Literature is a communication . نفكّرُ في العادة بالفعل التواصلي - ببساطة - على أساس كونه مُناقلةً للبيانات من نقطة لأخرى ؛ لكن ثمة الكثير ممّا هو كامنٌ في هذا الفعل : يحتاجُ الفعل التواصلي شخصيْن - على أقلّ تقدير - ( هذا هو المعنى الذي تستبطنه عبارة "تمتدّ يدٌ لتشتبك مع يدك وتسحبك نحوها" ) ، كما يحتاجُ لغةً ووسيطاً لمناقلة المعلومات ( كتب ، إشارات ، مصابيح ، اهتزازاتٌ صوتية في الهواء ، بل وحتى نظراتٌ متبادلةٌ بين الشخصيْن ) ، ونحنٌ لانستطيعُ حتى قول كلمة "مرحباً" من غير توفّر هذه الإشتراطات المسبّقة . تخبرُنا كلّ سلسلة صغيرة من البيانات بالكثير عن الناس والمجتمع والعالَم الذي جاءت منه ، وبالطريقة ذاتها فإنّ كلّ قطعة صغيرة - مهما تصاغرت - في الأدب لكفيلةٌ بأن تكشف لنا - إلى حدّ ما - عالماً كاملاً انبثقت منه .

يمكن لأية مُحادثة حوارية تعقدُها مع أصدقائك أن تكون حول أي شيء في العالم . هكذا هو الأمر مع الأدب أيضاً : يمكن للأدب أن يدور حول أي شيء ، ومثلما قلتُ سابقاً فإنّ هذه الخصيصة هي أحدُ الأسباب التي تجعل الأدب عصياً على أي تعريف . يمكنُ للأدب أن يكون حول أشخاصٍ آخرين ، وفي مستطاعه أن يخبرك أشياء عن شخصٍ ما أكثر بكثير ممّا تظنُّ أنّك تعرف عنه ، كما يمكنُ للأدب أن يكون حول مجتمعات وثقافات كاملة . يمكن للأدب أن يخضّك ، أو يستثيرك ، أو يمتّعك ، أو يصلِحك ، أو يفسِدك . يمكن للأدب أن يكون حول أشياء ذات أهمية جوهرية : بَدْءُ الحياة والولادة ، الأكاذيب والحقيقة ، الخير والشر ، النهاية والموت ؛ لكن في الوقت ذاته يمكن أن يكون الأدب أيضاً حول أشياء ليست بذات أهمية تذكرُ أو حتى قد لا توجد في الأصل : أشخاصٌ أسطوريون . وحيدو قرن خرافيون ، حوريات بحرٍ . 

الأدب ، في واقع الحال ، يُضفي أهمية على الأشياء ، وهذا أحد جوانب الأحجية الغامضة الكامنة فيه : ينظرُ الأمير هاملت في دهشة إلى الممثل الذي ينتحبُ لموت الملكة الأسطورية هيكوبا Hecuba (ملكة طروادة ، المترجمة) وبقايا خرائب مدينة طروادة التي استحالت أنقاضاً : "ماعساها تكون هيكوبا بالنسبة له ، وماعساه يكونُ بالنسبة لهيكوبا ، حتى بلغ به الأمر حدّاً استوجب أن يذرف الدموع منتحباً عليها ؟ " ( 3 ) . بالطريقة ذاتها تجعل محاورةٌ مع العفريت ( دوبي )* جيلاً من القرّاء يذرفون الدموع الساخنة . إنّ التفكير بكون الأدب محادثة حوارية يساعدنا في استكشاف مثل هذه الوقائع ذات المفاعيل القوية ؛ إذ نعمل في أية محادثة حوارية على " تقريب الموضوع المهمّ لنا " أو " تكثيف البؤرة على الموضوعات التي تعنينا أو تمثّلُ شيئاً أثيراً لنا " ، ونحنُ إذ نفعل هذا فإنّما نكشف في واقع الأمر عن ذواتنا الشخصية ونضعها شاخصةً أمام أبصارنا . يحصلُ أحياناً في سياق محادثاتنا مع الآخرين ( أو حتى عندما نتحادثُ بصمتٍ مع أنفسنا ) أن نكتشف مالم نكن نعرفهُ من قبلُ ، أو أن نعيد تأطير ماعرفناه بشكلٍ ما من قبلُ ، بغية امتلاك القدرة على الحديث بشأنه . الأدبُ يفعل الأمر ذاته ؛ فهو يكشف - مثلما المحادثة - عن أشياء ، ويُعلي شأن أشياء أخرى ، ويتعامل مع وقائع وتجارب وأفكارٍ كثيرة عبر وسيط - هو اللغة - من أجل منح تلك الوقائع والتجارب والأفكار معنى .

غير أنّ عملية الكشف هذه ليست مفتقدة لشكلٍ ما : نحنُ نتحدّثُ بشأن " صناعة المُحادثة " لأننا نصنعُ ( أي نشكّلُ ) مانقوله ، ونحنُ في العادة لانفعلُ هذا في محتوى الكلمات التي نختارُها فحسب بل أيضاً ، وعلى سبيل المثال ، في النغمة المنطوقة التي نتخذها لمحادثتنا، أي مانعنيه بالشكل Form . نستطيعُ مثلاُ قول " مرحباً " بغضب ، أو بلُطفٍ ، أو بمحبّة ، أو بسخرية، . إنّ الكيفية How التي نقول بها شيئاً ما في سياق محادثتنا لهي بالأهمية ذاتها التي يحوزُها مانقوله What ، وهذا أمرٌ يصحّ بدرجة أكبر - ويفرض سطوة أعظم - على الأدب : الشكل في الأدب له ذات الأهمية - وربما أهمية أعظم - من الأهمية التي تُفرَدُ للمحتوى . الشكل له معنى Form has Meaning ، وأن نتعلّم الأدب يعني أن نتعلّم الشكل المناسب الذي نقول فيه كلامنا . أمثلة بسيطة على ذلك : الملحمة ، سواءٌ أكانت ( الفردوس المفقود Paradise Lost ) أو ( لعبة العروش Game of Thrones ) ، ترينا أهميتَها عبر كونها طويلة ، بل وطويلة للغاية ؛ في حين ، وعلى العكس من الملحمة ، تُرينا السونيتة** Sonnet مدى تعقيدها وضبطها وأسلوبها عبر إختصارها وقِصرِها . يكتبُ الناقد الأدبي البريطاني الرائد تيري إيغلتون Terry Eagleton بطريقة رائعة بشأن هاتين الموضوعتين ( كيف يُضفي الأدب معنى على الأشياء ، وطبيعة الشكل ) عندما يتناول أطروحته بشأن الشعر التي يؤكّدُ فيها أنّ " الشعر معنيٌّ لابمعنى التجربة فحسب بل بتجربة المعنى كذلك " ( 4 ) . 

الحديث مع أحدٍ ما هو فعلٌ إبداعيّ : المحادثة بذاتها ، في نهاية الأمر ، هي نمطٌ من الارتجال الذي يحصل بين الناس ؛ لذا فإنّ إضفاء معنى استعارة مجازية على الأدب بكونه مُحادثة حوارية حيّة يعني أنّ الإبداع الخلّاق لايوجد في أعمال الأدب أو في رأس كاتب ذي شهرة واسعة فحسب بل يوجد كذلك فينا - البشر القارئين - . ينطوي الإبداع الأدبي على خصيصة المشاركة ( بين الكاتب والقارئ ، المترجمة ) لأنّ الأدب فعالية متشارَكة بطبيعتها ، وهنا تكمن الفخامة الحسّية - التي قد تكون مثلبة تُحسَبُ على القارئ - في صورة ( هكتور ) الجميلة السابقة: تمتدُّ يدٌ من بين السطور وأنت تقرأ ، هذا صحيح ؛ لكن يتوجّبُ عليك أن تمدّ يدك بالمقابل لها لكي تجعلها تختطفك نحوها . هذا أمرٌ يعني أنّ الأدب ليس شيئاً مختزلاً في كتبٍ مركونة في رفوف مكتبة ؛ بل هو شيءٌ عنك عندما تفكّرُ بشأن تلك الكتب ، وتُبدي استجابة نحوها ، وتكتبُ بشأنها ، وتتحدّثُ معها أيضاً ، ويمكن لتلك المحادثة الحوارية أن تشمل متحدّثين عديدين يتناقشون ، ويُجادِلون بعضهم ، ويتفكّرون بشأن محادثة مُتشارَكة بينهم . إذن ، الأدب ليس "محض إيماءة في سياق حركة بين شخصيْن فحسب" بقدر ماقد يكون ترتيباً للتفكّر المتشارك بين أشخاصٍ عديدين ، وبالإضافة لذلك فإنّ هذه الفعالية الإبداعية ليست مقيّدة في إطار دروس - مدرسية أو جامعية - أو مكتبات تعجّ بالكتب؛ فنحنُ نستخدمُ ونستجيبُ لِـ "التقنيات الأدبية" بشكل يومي في حياتنا : أنماط الكلام، الاستعارات المجازية، مواقف الإثارة، الحكايات، وربما تكون أولى الأشياء التي نبتدعها في طفولتنا هي الحكايات والقصص ( مثلما أكّد أرسطو من قبل عندما قال بأنّ التقليد يحتوينا بصورة طبيعية ) ؛ لذا فإنّنا على القدر العالي الذي نكون عليه من امتلاك الخبرة المبكّرة في المحادثة فكذلك نغدو دوماً خبراء متمرّسين في خلق الأدب ، والاستجابة له ، والاستماع إليه ، ومُساءلته . يعني هذا الأمر - بين أشياء كثيرة يعنيها - أنّ الأدب ليس شيئاً سحرياً مُفارقاً للحياة أو معزولاً عن دفق الحياة اليومية ، ولايوجد الأدب ( بل ولاينبغي له أن يوجد ، مثلما قد يقول البعض ) عند قاع الحياة ؛ بل يتوجّب أن يمتدّ لتخومها المهيمنة في أعلى سقوفها الشاهقة .

___________

* العفريت دوبي Dobbie ( or Dobby ) the House Elf : إحدى الشخصيات الرئيسية الداعمة للعمل في سلسلة روايات هاري بوتر . ظهر للمرة الأولى ، بصورة رئيسية ، في الكتاب الثاني للسلسلة وهو بعنوان " هاري بوتر ومستودع الأسرار Harry Potter and the Chamber of Secrets " . ( المترجمة ) 

** السونيتة : أو الأغنية القصيرة ، مشتقة من الكلمة الإيطالية ( sonetto )، هي أحد أهم أشكال الشعر الغنائي الذي انتشر في أوروبا في العصور الوسطى وكتب فيها كبار الشعراء. تتألف السونيتة من أربعة عشر بيتاً بأوزان وقوافٍ معروفة وتركيب منطقي. اهتمت السونيتة بمعالجة بعض الموضوعات مثل الحب العفيف . تتميز السونيتة بلغتها المكثفة وصورها البلاغية المؤثرة والتطلع إلى الكمال في صنعتها الشعرية ، إضافة إلى إظهارها قدرة الشعر على التعبير عن دخائل النفس البشرية . (المترجمة)

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

مقالات ذات صلة

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة:  صفقة مع الخطر
عام

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة: صفقة مع الخطر

ألِكْس كورمي* ترجمة: لطفية الدليمي بينما أكتب الآن هذه الكلمات يرسلُ هاتفي النقّالُ بطريقة لاسلكية بعضاً من أعظم ألحان القرن الثامن عشر (مؤلفها الموسيقار العظيم باخ لو كنت تريد معرفة ذلك!!) إلى مكبّر الصوت...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram