طالب عبد العزيز
قلت: لعل البشرى جاءت من السماء. اليوم، وفي صباح ربيعي نديٍّ، سمعت صوت بلبل، بدا مبحوحاً، غريبا مثل صوتي بين النخل، سمعته بعد أن يئست من سماعه، أقول هذا بعد أن اختفت البلابل من بساتين ابي الخصيب كلها- هل بقي في ابي الخصيب بستان للبلابل؟-
ولم يبق من الطيور التي كانت أنسَ الاهل إلا العصفور النطاط الصغير والفاختة، القمرية النائحة ابداً. لم أتبينه بين السعف وعراجين العام الماضي، ولم أصدقه صوتاً وصورةً، قلت ربما جاءني صوته من قفص في بيت الجيران، أو لعله ضلَّ طريقه الى عبادان التي عبر النهر، حيث يعيش هناك، آمنا، أو طابت ريح وشمس البصرة في حنجرته فجاءني يائساً، يبحث في النخل عندي عن لحظة للمسرة، ربما.
ومثل منشعب قلبُه بالامل، رحت أنعم النظر في النخل المترامي، اتحرى جهة الصوت بأذني كيما استدل عليه بعيني، لكنني، وفي مَهْمَهٍ من هذه وتلك، وعلى أُملُودٍ توتٍ صغير أبصرته، كان غريباً حقاً، وخائفاً، متوجساً أكثر مني، ولكي أبلغه مأمنه شحت بنظري الى ناحيةٍ ما في الارض، قلتُ له: عِمْ خيراً أخي في الغربة، فما أنا ممن يسجنون البلابل في الاقفاص، ولا متعقب ذا الجناح في محنته، انا أريدك كل يوم هنا، تأتي الي، أشاطرك الغربة، وقد نستعيد الايام معاً، أنت تقف على املود التوت حتى يكبر، وأنا اغرس الضوء كيما أراك، أنت تفرد جناحيك قبالة الشمس والريح، وأنا أكتب القصائد التي تحب، لا، لن أدع أحداً يتعقبك، فكن بلبلاً كما أنت، هناك من تذله الغربة بدونك، هو، انا طالب عبد العزيز.
لا أكتب نجوى لأحد، ولا أنشد لنفسي سعادات أجهلها، ولم أشهد يوم حفل افتتاح مدرسة المحمودية سنة 1929، التي بناها محمود جلبي آل عبد الواحد، لكنني، تذكرتُ، انه أطلق (1000) ألف بلبل في ساحتها يومذاك، وفي عرف الناس هنا، أنه طلب من كل طالب متقدم للدراسة فيها احضار بلبل واحدٍ، لكنَّ الطلاب واهليهم أسرّوه بانهم احضروا الف بلبل وبلبل!! هل اسرَّ الناسُ الخصيبيون الف ليلة وليلة للباشا الجلبي حكاية هنا؟ لا أعلم، لكنني شهدت بعضاً من الزمن الاخضر ذاك، يوم كانت الطيور تأتي من اقاصي الدنيا الى هنا، لتشهد معنا مواسم التمر والفاكهة والخضار. اللقلق يتخذ من المنارة مقامةً، والبواشق والشواهين من رؤوس النخل وكنات، والفاخت القمري من العراجين مفازة، وكل من ضاقت الريح بجناحه وتعقبت الاسفارُ ارضه يأتي وينشد المباهج فيأخذها اليه.
ما لي افتش في القيعة عن ماء للصبر فلا أجده؟ ما لي أبحث في جناح البلبل عن هدأة للروح فلا أدونها إلا خائفاً؟ ما لي لا اغادر البيت إلا معصوب الفم والمنخر والكفين؟ ألأنني أتيتُ الفجر باقة ورد من بستان بدر بن شاكر السياب؟ ألأنني تذكرتُ السعدي ابن يوسف في المحمودية طالباً؟ أم لأنني لا اغادر البصرة إلا لأعودها سكرى مريضةً؟ هناك من لا يفرد لي سريراً على شطها، هناك من يلقي في مائها ما لو القاه في جوفه لمات، هناك من اهملها مدينةً، وأغرقها بجهله، وهدَّ اسوارها عليها... أما أنا فمازلت أقتطع من مفازة حزني قنطرة لعبورها، أبحث في سعف نخيلها عن مأمن صغير لبلبلها الاخير، ذاك الذي رأيته فجر أمس الاول، وقد أيقظ المواجع كلها.