لطفية الدليمي
بعدما فرغتُ من قراءة أحدث كتب البروفسور ( جم الخليلي ) – وعنوانه " العالَمُ من وجهة نظر الفيزياء The World According to Physics " - ، شعرت بغصة لوضع العلم البائس في ثقافتنا العربية .
العلم - كما يحكي عنه الخليلي في كتابه - مغامرة كبرى على الصعيد الفردي مكتنفة باللذة ، وفي الوقت ذاته هو قوة عظمى في تخليق الثروة وتغيير حال الجماعات البشرية بطريقة أكثر ثورية من كل الثورات الآيديولوجية التي عرفناها .
جِم الخليلي Jim Al - Khalili -لمن لايعرفه - هو بروفسور للفيزياء النظرية في بريطانيا . يذكر الخليلي ( العراقي الأصل ) أيام نشأته الأولى في العراق باعتبارها من أطيب ذكرياته ، وقد بلغ به تميزه العلمي - فضلاً عن مساهمته في نشر الثقافة العلمية الجمعية - حدّ أن تكرمه ملكة بريطانيا بمنحه رتبة ( فارس ) . برع الخليلي في تقديم السلاسل الوثائقية العلمية في قنوات تلفازية كثيرة ( ومنها BBC) ، وأرى أن سلسلتيه الوثائقيتين «قصة الذرة» و«الفوضى» رائعتان ومبهرتان إلى أقصى الحدود .
أعادني كتاب البروفسور الخليلي إلى سنوات بعيدة عندما قرأت كتاب « ألف باء النسبية » للفيلسوف البريطاني برتراند راسل ، ودفعتني تلك القراءة للمضي في قراءة كتاب آخر عنوانه « النسبية : النظرية الخاصة والعامة » ألّفه ألبرت آينشتاين ذاته واضع تلك النظرية . تتراءى أمامي تلك القراءات كلّما قرأت كتاباً علمياً جديداً مثيراً في مادته أو تابعتُ على إحدى الفضائيات سلسلة وثائقية تتناول إحدى الموضوعات العلمية التي يحفل بها عالمنا المعاصر،ولا أنفكّ أتساءل بعد كلّ قراءة أو مشاهدة مثمرة : لِمَ يبدو العلمُ لدينا مملكة عصية الإختراق لا تفتح مغاليقها إلا لصفوة من النخبة ( أو بتعبير أدق : لمن نتصوّرُ أنهم الصفوة البشرية المنتخبة ) ؟ وما السبب الذي يجعل العلم لدينا أقرب إلى الملغزات المفاهيمية اللاهوتية المستعصية على الفهم الجمعي؟ ولماذا يبدو لنا آينشتاين - على سبيل المثال - أحد الشخوص الأسطورية في الوقت الذي يتعامل معه الغربيون باعتباره شخصية ثقافية حالها حال الكثير من الشخصيات الثقافية التي نتعامل معها بصورة يومية ؟
ليس العلم بذاته محض قوانين ومعادلات رياضياتية أو تمظهرات تقنية فحسب ؛ بل هو توليفة متكاملة ومتناسقة من أنساق مفاهيمية تمنح الفرد قدرة على رؤية العالم بطريقة متمايزة نوعياً عمّا يراه الفرد غير المؤهّل علمياً ، وتنعكس آثار هذه الرؤية على كيفية تشكيل الثقافة إلى حدّ أصبحنا معه نشهد الكثير من المنظّرين الثقافيين وممارسي الثقافة المؤثّرين من الحائزين على أرقى المؤهلات العلمية في الفيزياء والرياضيات وسواها ، وبقدر ما يختصّ الأمر ببيئتنا العربية يبدو أنّ اختلالاتٍ هيكلية عميقة ضاربة الجذور قد تمكّنت من رسم معالم الأنساق الثقافية العربية ودمغها بتلك السمات المعروفة عنها وهي - في معظمها - تتمحورُ على إعلاء شأن الاشتغالات النسقية الفكرية العتيقة وترسيخ سطوتها، وتقليدية المناهج الدراسية وتخلّفها، وغَلَبَة الدراسات اللغوية التقليدية ، وهيمنة الأنساق الفقهية .
ما زالت كثير من الأوساط لدينا تُعدّ العلم اشتغالاً فوقياً بعيداً عن ملامسة قاع البنية التحتية للثقافة ، وتتعاظم معالم هذه ( الفوقية ) كلّما كان الاقتصاد ريعياً ، ومالم يصبح العلم عندنا مغامرة كبرى - بمثل ماكان في حياة الخليلي - فسنبقى محض كائنات طفيلية تستمرئ العيش على المخلفات العضوية المدفونة في باطن الأرض !