ستار كاووش
وأخيراً نجحت محاولاتي بالحصول على أربعمائة ساعة إضافية للمضي بدراسة اللغة الهولندية، حيث تكفلت بلدية المدينة بدفع التكاليف، فركبتُ دراجتي بإتجاه طرف المدينة حيث مكان الدراسة، وكان قصراً ريفياً كبيراً،
تحيطه حديقة واسعة وتلتمع امامه بركة ماء مربعة تشبه المسبح، اصطفت على جانبها الأيسر مجموعة من الدراجات الهوائية التي انعكست ألوانها مثل الشرائط على سطح الماء وبدت كأنها واحدة من لوحات مونيه. في هذا المكان تعرفت على مدرسة اللغة ريتا، بقامتها القصيرة ووجهها الطيب المليء بالفرح، حيث استقرت دائرتان حمراوان على وجنتيها أحالتها الى واحدة من لوحات فرانس هالس المرحة. كانت ريتا -إضافة الى خبراتها التدريسية- تحمل عاطفة كبيرة وذكاءً فطرياً غير مصطنعاً، يشبه فطنة فلاحي هولندا، لذا لم أستغرب حين فاجأتني ذات يوم وهي توقف الدرس، لتجلب كعكة كبيرة هيأتها بعيد ميلادي الذي لم اخبرها به أصلاً، لكنها بنباهتها وإهتمامها عرفت ذلك من بعض السجلات، لتحيل الدرس الى ظهيرة ممتعة. كانت تعتني بالتفاصيل الصغيرة، مثلما تهتم بسؤالي عن لوحاتي الجديدة وتتابع أخباري بفرح غامر، وقد اقتربت مني ذات مرة قائلة (يوجد غاليري صغير وجميل اسمه (برونكامر) في قرية ساكسمهاوزن التي أعيش فيها، ربما هو مناسب للوحاتك، ان كنت ترغب بذلك) فرحبتُ بالفكرة وعرضت لوحاتي في تلك القرية التي تقع في آخر نقطة شمالي هولندا حيث تغفو على حافة بحر الشمال، وقد اشتركت معي في المعرض الفنانتان الهولنديتان ريا فان كريكن وكاترينا رينولدز.
مرت سنوات طويلة، تنقلتُ خلالها بين مدن عديدة، وغابت عني أخبار مدرستي ريتا. وبالنسبة للغاليري كنت أتابع اخباره من بعيد عن طريق الصحف الفنية. وذات صباح، وبينما كنتُ أتابع أخبار المعارض، طويتُ (جريدة الفن) قائلاً لزوجتي بفضول (أود الذهاب الى غاليري برونكامر من جديد لأني قرأت بأن المعرض الحالي هو الأخير، وبعدها سيغلق أبوابه).
انطلقنا بالسيارة وسط حقول مقاطعة فريسلاند لندخل مقاطعة خروننغن ونكمل الطريق وسط ريف شمال هولندا الجميل، لنصل الى ساكسمهاوزن، فلاحتْ لنا الكنيسة الصغيرة التي تذكرتها، حيث ينتصب الغاليري قبالتها تماماً. وهناك التقينا بصاحبة الغاليري مار التي كانت منشغلة بتثبيت اليافطة التي توضع خارج الغاليري. مرت بضع دقائق قبل ان تحضر لنا القهوة والحلوى، بينما جلس زوجها على كرسي قديم وهو يطالع الصحف ولا يقوى على الحركة بسبب الآلام التي ألَمَّتْ بساقيه. أخذنا مكاننا على الطاولة الكالحة التي فقدت لونها مع مرور الزمن، وقد توزعت عليها بعض الكتب الفنية، واستقرت على حافتها قوارير زجاجية كبيرة بارتفاع سبعين سنتمترا تقريباً محكمة الاغلاق ومليئة بالنبيذ الأحمر الذي يصنعه فلاحو شمالي هولندا، وثُبِتَتْ على الجدار المحاذي للطاولة مجموعة من قصاصات ورق صفراء، كُتِبَتْ عليها وصفات لبعض الأطعمة وتحضير النبيذ. قضينا ساعة في الحديث مع مار التي قالت ان سبب اغلاق الغاليري هو تقدمهما في السن هي وزوجها، فشعرتُ بالأسف لذلك. وقبل توديعها سألتها عن ريتا، ان كانت لا تزال تعيش في ذات القرية؟ فطلبت أن أتبعها حيث الباب لتقول (انظر الى هذه الجادة المقابلة للكنيسة، البيت الأخير هو بيت ريتا وزوجها هانس). شكرتها وتمنيت لها اياماً طيبة، لنمضي بعدها نحو البيت الذي أشارت اليه.
قرعنا الجرس، لينفتح الباب، ويطل وجه ريتا بعد فراق ثلاث عشرة سنة، حيث وقفت منذهلة وهي تضع يدها على فمها قائلة (ستاااااار؟!) دخلنا البيت وَعَرَّفتها على أليس، لتأخذنا بجولة في الخلف، حيث مزرعتها المفتوحة التي تماهت مع الأفق وتوارت مع امتداد البحر، وقد توزعت على مساحتها أنواع الزهور والخضروات والأعشاب التي تستخدم للطعام. ووسط ذلك بدت ريتا بملابس المزرعة وكأنها النسخة النسائية من داستن هوفمان في آخر مشهد من فيلم الفراشة عندما انعزل بمزرعته في الجزيرة. تجولنا بين عالمها الساحر، لتلتفت نحوي قائلة (بعد التقاعد، تفرغت لهذه المزرعة). أحضَرَتْ ريتا أبريق القهوة مع الكعك الهولندي التقليدي (أورانيا كوك) وجلسنا في ظل سقيفة خشبية دائرية الشكل، يحيط بنا عطر الطبيعة ونحن نستعيد ايام المدرسة والمواقف الجميلة وحتى المقالب المضحكة، لأخرج من حقيبتي كتابي (نساء التركواز) الذي صدر باللغة الهولندية وأوقع عليه لأستاذتي واكتب لها كلمات تليق بها، وسط التماع عينيها من الفرح وهي تنظر لحروفي الهولندية، فيما أنا كنتُ أجاهد في تلك اللحظة على أن أخفي عنها وعن زوجتي دَمعَتَيْ امتنان.