د. حسن أحمد
التأثيرات المتبادلة بين البشر والتكنولوجيا والمعرفة والمحيط البيئي ،الذي تتقاطع في فلكه هذه الأبعاد، عميقة و متشابكة .
تلعب هذه التأثيرات دوراً كبيراً في صناعة المعرفة وتوجيهها، وأصبح جزء كبير من عملية تشكيل وتأطير نوعية المعرفة في المجتمعات الحديثة مرتبطاً بشكل وثيق ومتشعب بتطورات التكنولوجيا الرقمية، لا يمكننا الاستغناء عن التكنولوجيا في حياتنا اليومية وبالتالي باتت تساهم بمختلف مجلات الحياة ، بل تمحورت بشكل فعال بعملية هندسة وتنفيذ وإيصال المخرجات العملية التعليمية في كبرى الجامعات والمؤسسات الأخرى.
يقصد بالتعليم عن بعد أو بالانجليزية (Distance Learning) بأنه وسيلة أو أداة يسخرها المعلم لتعليم الطلاب خارج حدود جدران الصف بواسطة الانترنت، وعن طريق توظيف تكنولوجيا محددة بعينها تعمل كمنصة لعملية التعلم والتعليم. مبدئياً التعليم عن بعد يتعكز على مجموعة عناصر ظاهرة وأبرزها: المادة والمنهج والمعلم والطلبة ووسائل التواصل التكنولوجية المباشرة وغير المباشرة التي تتم عبر الانترنت. وأيضاً هناك عناصر باطنة التي تحرك وتتحكم بعملية دمج التكنولوجيا (Technology Integration) واستخدامها بالتعليم وأبرزها: ستراتيجية التعليم الإلكتروني المتبعة، المعرفة النظرية والعملية بالتكنولوجيا ومادة التدريس (التخصص بالمخرجات التعليمية)
الجدير بالذكر إن مصطلح التعليم عن بعد يشير الى شكل من أشكل التعليم الالكتروني (e-learning) أو التعليم بواسطة التكنولوجيا، ويعد مفهوم التعليم الالكتروني بمثابة المظلة لجميع فعاليات التكنولوجيا التعليمية الكبيرة منها والصغيرة. تظهر لنا أدبيات نظريات التعليم الالكتروني العديد من المصطلحات مثل : التعليم إلالكتروني (e-learning) ,التعليم بواسطة التكنولوجيا (Technology-based learning) ،التعليم عن بُعد (Distance Learning) ،التعليم بواسطة الحاسوب (Computer-based Learning)
رغم هذا التشعب بالمصطلحات يبقى هناك توافق كبير بين الباحثين في هذا المجال على أنها تصب في بودقة واحدة ، وتتلخص في مبدئها أساساً وهي إن عملية التعلم والتعليم تجري بمساعدة أو بواسطة تقنيات ومنصات الكترونية رقمية، التي توفر أدوات تفاعلية تسهل عملية تصميم وتنفيذ وكذالك عرض وإيصال المواد التعليمية للمتلقي. الهدف الرئيس لظهور التعليم عن بعد هو لتلبية احتياجات التعليم بطريقة أكثر مرونة وبتقنيات متعددة من أجل الحصول على شهادات دراسية من مؤسسات تعليمية رصينة.
تعد الجامعات الأميركية والأوروبية أولى المؤسسات التي تبنت تطبيق فكرة التعليم عن بعد ، حيث كانت ترسل المخرجات الدراسية مسجلة على أشرطة فيديوية مع شروحات مفصلة مدعومة بواجبات ممنهجة لإكمالها وإرسال الأجوبة عن طريق البريد الالكتروني لكل مادة. تطور مفهوم وممارسة التعليم عن بعد بتطور التكنولوجيا، فبلغ التعليم ذروته حين استغنت عملية التعليم عن الراديو والتلفزيون وباتت تستخدم الأنترنت الذي يجمع كل هذه الوسائل معاً وبجودة أعلى وأكثر تعقيداً. تكنولوجيا التطبيقات والوسائل المتعددة (Multimedia Learning) مهدت لاكتشاف طرائق معقدة أثرت الواقع التعليمي، فمنها التعليم النظري (Visual Learning) أسلوب قائم على أساس تفعيل الصور والنصوص المكتوبة و الرسوم المتحركة ومقاطع الفيديو، وكذلك التعليم اللفظي(Verbal Learning) الذي يستخدم السرد اللفظي.
مجموعة واسعة من الأبحاث التجريبية تقدم أدلة مفصلة عن أهمية وجدوى استخدام التعليم عن بعد، على انه نمط تعليمي حديث يتخذ أشكال وطرق متنوعة يمكن توظيفها لأغراض مختلفة. الكثير من الجامعات الرصينة اعتمدت نظام التعلم عن بعد لتوسيع المشاركة والوصول للكثير من الطلاب الذين لاتسنح لهم الفرصة للمشاركة في التعليم التقليدي داخل أروقة الجامعات، لكن هذه التجارب خططت وصممت لظروف تختلف عن ظرفنا الحالي.
وفقاً للضرورة الملحة والمتطلبات التعليمية والصحية الطارئة والمتصاعدة التي فرضها واقع انتشار جائحة كرونا أو Covid 19 في العالم صار التعليم عن بعد من أكبر الأولويات لجميع المؤسسات التعليمية من أجل استبدال التعليم التقليدي داخل جدران صفوف المدارس ، فعكفت الكثير من المؤسسات بشكل عاجل على تغيير التعليم التقليدي بشكل مؤقت بالتعليم عن بعد لفترة غير معلومة ،وهذا يضع جميع المؤسسات تحت الضغط والحرج خصوصاً إذا كانت تفتقر للتخطيط الصحيح والبناء التكنولوجي المناسب للاستجابة لهذا الوضع الطارىء. يعد التعليم عن بُعد أكبر الرابحين.
يسلط هذا المقال الضوء على دور وجدوى التعليم عن بُعد في هذا الوقت الحرج وكذلك مبدأ الإدامة على المدى البعيد والقريب إذا استمر هذا الوضع لفترة أطول، فالسؤال هنا:
ماذا يمكن أن يقدمه التعليم عن بُعد لسد الفجوة الحاصلة وتحقيق الأهداف التعليمية المتعددة والمختلفة على اختلاف الظروف والأماكن و تنوع حاجات المتعلم؟
ولأي مدى يمكن إدامة العملية التعليمية باستخدام منصات تفاعلية تعمل عن بَعْد؟
في البداية نود الإشارة الى أن القرن الواحد والعشرين قدّم مجموعة زاخرة من التكنولوجيا الرقمية التفاعلية التي أوجدت حلولاً ومميزات (Affordances) تعليمية جديدة و غير ممكنة في الماضي القريب، بحيث صار من الممكن التعلم بشكل مرن بغض النظر عن الزمان والمكان ، توفر منصات التعلم عن بُعد أطراً تفاعلية تسهل عملية عرض المخرجات والمواد الدراسية بشكل متنوع (سمعية، بصرية وكذالك تواصلية) ،تتوافق مع مختلف أنواع وأساليب التعلم التقليدية وأيضاً تتفوق عليها. هذا النوع من التعليم يتيح للمعلم اختيار نوع المخرجات الدراسية وطريقة تشكيلها وطرحها بما يتوافق مع أهداف التدريس الممنهج ،وأيضاً يمكن للمتعلم اختيار الطريقة الأكثر نجاحاً في هضم واستيعاب المادة الدراسية بطريقة مُختلفة ، خاصية تسجيل المواد والنشاطات والرجوع إليها في وقت آخر أبرز مميزات التعلم عن بَعْد.كذالك التفاعل الفردي والجماعي بالتعليق المتبادل وطرح المقترحات وخاصية الكتابة والمشاركة الصوتية كلها ممكنة.
هناك آلاف المنصات والصفحات والتطبيقات التي تفتح الأبواب أمام المتعلم للتفاعل بشكل متزامن (Synchronous)، أي بنفس الوقت، أو بشكل غير متزامن (Asynchronous) أي بأوقات مختلفة ومتباعدة. التفاعل التعليمي المتزامن يخلق فرصاً ذات قيمة بداكوجية (Pedagogy) أو إطار تعليمي ناجع للتواصل والتباحث ومناقشة مختلف المواد والآراء والتعقيب عليها بين الاستاذ والطلاب تارة وبين الطلاب أنفسهم تارة أخرى، فهذا الأسلوب من التعلم يفتح آفاق متعددة يمكن توظيفها لإغناء عملية الفهم والإدراك وكذالك البحث والتقييم. لدينا الكثير من الأدلة البحثية التي تؤكد على القيمة والفائدة التعليمية لاستخدام تطبيقات ومنصات مختلفة مثل Moodle, Skype, Wiki, Microsoft Team, Facebook ,Zoom ..وألخ. أما التواصل غير المتزامن، استخدام الايميل (email) أو بعض المواقع التفاعلية على سبيل المثال ، تترك الحرية للمتعلم بالتفاعل مع المادة الدراسية في أي وقت شاء أو أي مكان أراد ليتسنى له التأمل ومراجعة المعلومة بشكل أدق ومفصل.
التفاعل الممنهج الذي توفره منصات التعلم عن بعد ليس فقط يساعد على إيصال المعلومة بل يشجع المتعلم على بناء قدراته الذاتية للاعتماد على نفسة ليصبح متعلم وباحث عن الحقيقة بنفس الوقت. بضغطة زر يمكن الولوج لكم هائل من المعلومات، وهنا يأتي دور المتعلم باختيار المعلومة الدقيقة والاجابة الشافية التي يبحث عنها ، لكن يجب التحذير هنا ليس كل ما يكتب على صفحات هذه المنصات دقيق مئة بالمئة،ولذالك هنا يكمن دور الرؤية الستراتجية المتبعة من قبل المؤسسات التعليمية في كيفية إيجاد وعرض وايصال المعلومة الأصيلة للمتعلم. مما لا شك فيه ان تكنلوجيا التواصل والمعلومات Information Communication Technology (ICT ) حوّلت وطورت طرق تشكيل وتأطير المخرجات الدراسية وتوسيع نهج المشاركة والتفاعل في التعليم.