طالب عبد العزيز
في جزء مما أحاول تدوينه كمذكرات، شبه يومية، أنني أكتب ما تناثر عنّي في اليوم من وقائع ثانوية، لا قيمة لها، تقع خارج الكتابة بالثقافة والفن، في هروب واضح من الغوص في التفاصيل،
ذات التماس المباشر بحياتي في الشعر والدين والسياسة وموجبات الكتابة وأسباب ضجري اليومي، والحصار الذي تفرضه الاشترطات الاجتماعية والدينية، ولهذا انشطر يومياً، بعيداً عن مشروعي الشخصي في التدوين والتناول الحقيقي في الكتابة. أشعر بضياع وفقدان الكثير من القصائد والمشاريع الكتابية بالغة الأهمية، لعلمي بانني لو كتبتها ستكون إرثاً سيئاً للعائلة، وقد أضع نفسي وأسرتي في الموضع السيء إجتماعياً ودينياً، هذا إذا لم أعرضهم لخطر حقيقي.
هل أجرؤ أن أقول برأيي في المقدس والكتب السماوية والموروث الديني كله؟ هل أسمّي الرجال والنساء الذين يستحقون مني الإجلال مرةً والإذلال مرة أخرى؟ هل يتسنى لي الحديث عن الكتب التي قرأتها ووجدتها تافهة، لا تستحق الوقت وآلام الرقبة وكلل العين، ولا استثني المقدس منها، أو التي خطّها الكبار المحترمون وغير المحترمين، بمثل هذه وتلك كم سيتوجب عليّ أن أجاهر بمحبة وكراهية من مرّوا بحياتي كراماً أو إذلاء. لماذا لا تبدو الحياة في شرقنا المتوسطي بأكثر من طعم ولون ورائحة، ولماذا تظل صورة ما أُطْلِعْنا عليه ذات يوم نمطية حتى النهاية، وهذا الكون يضطرب ويتغير كل ساعة.
من السخف أن يظل المفكر والشاعر والفنان أسارى قيدهم الاجتماعي- الديني، على حساب حياتهم في صناعة وترسيخ قيم الجمال، في المدينة حيث اعيش، هناك أكثر من موسيقي وشاعر وفنان وممن يدعون الاشتغال في الثقافة، لكنهم أين؟ صامتون، منزوون. الموسيقي يخجل من حمل آلته، والشاعر يحرص على حضور المناسبة الدينية، ويمتدح رجل الدين ويفرح إذ يرحب به في مجلس السياسة، وإذا بالغ بشجاعته ذهب الى طلاسمه وأحاجيه، لا يقترب من المتن ولا يريد أن يسقط في الهامش، كذلك يفعل المثقف (العضوي) والاستاذ في الجامعة وأغلب المشتغلين في الوعي. هناك أكثر من شيء يُطمس في حقيقة وجودنا كنخب مثقفة، نحن غير أمناء على ما أستودعنا.
يا للسخف، أنا أيضاً كتبتُ عن المطر الذي سقط مفارقاً أحايينه أمس، وكتبتُ عن الريح التي لم تعصف قويةً بالنخلة الطويلة التي خلف داري على النهر، وكتبتُ عن صيادي السمك بالفاو، الذين خذلتهم نشرة احوال الطقس، أنظروا، لم اكتب عن مهربي النفط في الميناء الذي مروا به، في طريقهم الى البحر، لم أكتب عن المحافظ، الذي لم يحقق في مقاتل البصريين بساحة البحرية حتى، لم أكتب عن المرأة التي كنتُ رفقتها ذات يوم، في القطار الصاعد الى بغداد، وقد سرق الجنود حقيبتينا، لم أكتب عن شعرها الليلي الطويل، عن صدرها بحلمتيه الداكنتين،عن ساقيها،وهما يضطربان تحتي غلمةً وشبقاً، يا للخيبة، لم أقل بأنهما جديران بالإحتضان والقُبل الى اليوم، وقد مضت السنوات.
ما لم نكتب عن حقيقتنا في الحب والخمرة والنساء لن يكون لوجودنا معنى هنا. أيها السيد ستاندال، لقد فقدت كتابك (الأحمر والأسود) في الحقيبة التي سرقها الجنود أيضاً، فقدت جوليان سوريل، الذي طالما حلمت أن أكونه.