ستار كاووش
فتحتُ باب المرسم صباحاً، فامتلأ المكان بالهواء العذب لحقول درينته الخضراء، شغَّلتُ الموسيقى وبدأتُ بالرسم كما أفعل كل يوم، وأنا أشعر بأن الحياة ستستمر حتى نهايتها على هذا المنوال لأن تلك الطمأنينة بَدَتْ لي خالدة.
وفجأة تغير كل شيء وقتها وأخذت الحياة طريقاً غير متوقعاً عند وفاة صديقتي وصاحبة البيت رولين، نعم تغير كل شيء بعد أن رقدت دون حراك أو كلمة ولا حتى نظرة وداع. كانت ابنتاها تعيشان في مكان آخر لذا كنت الوحيد في المرسم الذي يقع ضمن البيت. استقرت رولين في التابوت الذي وضع في الغرفة الصغيرة المحاذية للمرسم، أربعة أيام بلياليها حسب التقاليد، وهي بكامل ملابسها وزينتها، وبجانبها جهاز صغير للتبريد، كنت الوحيد هناك وهي ترقد بالقرب مني باردة وساكنة.
لم أكف عن الإطلال عليها صباحاً ومساءً لإلقاء التحية بصمت، وفي منتصف إحدى الليالي اقتربتُ ببطء من الغرفة شبة المظلمة، فتحتُ الباب بهدوء وإقتربت منها، وأخذتُ أنظر الى وجهها الذي سقط عليه ضوء خافت وهي تخضع لسكينتها الأبدية بملابسها الملونة، حتى بدت لي نائمة، لكن حين استدرت للخروج من الغرفة ومع أول خطوة، أحسستُ بخوف أو رهبة غريبة، لقد شعرت بأنها تفتح عينيها وتبتسم، وربما هي على وشك الالتفات نحوي ومناداتي بطريقتها كما كانت تمد حرف الألف في إسمي حين تصلها رائحة القهوة التي أقوم بتحضيرها.
أثناء تلك الايام الأربعة اتصل بي هاتفياً الكثير من الأصدقاء والصديقات وأنا في تلك القرية المنعزلة، لتعزيتي والاطمئنان عليَّ، كانوا يعرفون حساسيتي لهذا نصحني بعضهم بمغادرة البيت، ومنهم من قال لي (يجب ان تترك البيت فوراً، كيف تقضي هذه الليالي قرب تابوت؟ أخشى ان تموت ايضاً ان بقيت هناك وحدك)، لكن كيف اترك المكان أنا الذي كانت تدعوني في حياتها (الملاك الحارس)؟ قضيت الأيام الأربعة مع بضع قناني من نبيذ القرية، وقد حضر بفترات متباعدة في أوقات النهار بعض الصديقات والأصدقاء الذين ألقوا عليها الوداع الأخير، فمنهم من أحضر الزهور التي كانت تحبها، وبعضم وقفوا واجمين أمامها دون كلام، وآخرين تمتموا ببعض الكلمات، وهناك من غنوا لها أغنية كانت تعشقها كما فعلت الصديقتان تريس وألما اللتان رددتا جزءا من أغنية (سوزان) لليونارد كوهين.
كانت تحب لوحاتي كثيراً، لذا فكرتُ أن يكون معها شيء من اعمالي، شيء بمثابة رمز يصاحبها الى الأبد، لذا أمسكت بغطاء التابوت المتكئ على جدار الغرفة الباردة، وحملته معي بهدوء الى المرسم، وهناك رسمتُ عليه وجه امرأة تغفو قرب نافذة، وتحيطها بقع من الضوء والزهور التي تحملها الى عالم بعيد. وأثناء الرسم سمعت جرس الباب، ففتحته وإذا بالصديق الشاعر والفنان موفق السواد، الذي جاء من مدينته للاطمئنان عليًّ وإلقاء التحية الأخيرة عليها، وقف معي في المرسم ونظر نحو غطاء التابوت الذي تحول الى لوحة سوف لن تعرض تحت الضوء أبداً، بل ستأخذ مكانها وسط الظلام الأبدي، وأمسك الكاميرا وصورني صورة وحيدة لذلك اليوم البعيد الذي مضى. وهكذا، مثلما رسمت حياة الآخرين فها أنا أرسم موتهم أيضاً، فلا تكتمل الحكاية إلا بهذه الخطوة الأخيرة التي نسميها رحيل، وبكل الأحوال علينا أن نحب الحياة ونعيشها مهما كانت وكيفما سارت واينما اتجهت.
في مراسم الدفن أطلقتُ أغنية (دكولوله لبو عيون الوسيعة) ليسمعها كل الحاضرين رغم عدم معرفتهم باللغة. كان صوت عباس جميل يتَرَنَّم (لديار الغُرُب لو راح أطيعه) وأنا أفكر معه بالفقدان والغربة والتنقل بين المدن والناس، لكني استعدت مع صوته أيضاً، ذلك المساء الذي كنت اترجم لها فيه هذه الاغنية، هي المولعة بأغاني الفادو التي تقترب بحزنها من الأغاني العراقية. وهكذا صاحبتها في رحيلها لوحة عراقية وأغنية عراقية، بذلك اليوم الثلجي البارد.
بعد الدفن، عدتُ الى المرسم ولم أجد أحداً غير لوحاتي وتلك الذكريات وجهاز التبريد الذي مازال يدور في الغرفة الصغيرة المحاذية للمرسم.