TOP

جريدة المدى > عام > في كتاب (موسم الجنون).. ظاهرة (المشاية) بوصفها فرجة درامية

في كتاب (موسم الجنون).. ظاهرة (المشاية) بوصفها فرجة درامية

نشر في: 13 إبريل, 2020: 09:02 م

أحمد شرجي

يثير كتاب مجاهد ابو الهيل ( موسم الجنون: المشاية في مراسم الزيارة الأربعينية؛ قراءة سوسيولوجية) ،

الكثير من الأسئلة المهمة فنياً ،بعيداً عن قصدية دراسة ظاهرة ( المشاية) في بعديها السوسيولوجي والعقائدي ،التي يمتد عمقها وتفاصيلها( الدرامية) إلى عمق حادثة مقتل الحسين بن علي (ع) وعائلته ومواليه في عام (61) هجرية في واقعة الطف.

منها؛ لماذا لم تتم دراسة ظاهرة ( المشاية ) فنياً ، بوصفها ظاهرة درامية فرجوية، بعيداً عن مرجعيتها العقائدية؟ لماذا تعامل النقد والبحث العلمي معها بتعالي وتثاقف قصدي وغير قصدي ؟ رغم أن النقد العربي تعامل مع مظاهره الدرامية بحفر معرفي مهم وكبير ، وبدأ ينظر لكل ممارسة اجتماعية بوصفها ظاهرة درامية وفرجة شعبية كما عند ( علي عقلة عرسان: الظواهر المسرحية عند العرب) ، وترسيخه لـ (حلقات الذكر الصوفية، الطقس الديني، المولد النبوي، خميس المشايخ، الحج، صلاة الاستستقاء، المنافرة" التباري شعرياً") وغيرها الكثير، بوصفها مظاهر درامية عربية ، بل ذهب إلى أكثر من ذلك ، حيث قسم في كتابه المظاهر إلى ما قبل الإسلام /عند عرب الجاهلية ، ومظاهر بعد الإسلام . ولعل النقد المغربي سباقٌ في تأصيل فرجاته الشعبية بعيداً عن مرجعياتها العقائدية والجغرافية ، بل وضعها تحت البحث الابستميولوجي الواعي والعميق ، ومن خلاله تعرفنا على فرجات ( الحلقة، سلطان الطلبة، البساط، سيدي الكتفي ) وغيرها الكثير ، ومن ثم أصبحت مادة مسرحية عند الطيب الصديقي، الذي تعلم الدرس جيداً من أستاذه الفرنسي جان فيلار، والذي أخبره ( عندما تعود إلى وطنك، عليك بنسيان كل ما شاهدته هنا، وتذكر فقط التقنية)، وعمل الصديقي وغيره الكثير من المسرحيين المغاربة على مسرحة الظاهرة الدرامية وصناعة فرجة مسرحية ، تدخل فيها كل أنواع الاداء ، وأصبحت المظاهر الدرامية مادة مسرحية ذات خصوصية ثقافية .

كان الشرق مهاد خصب للكثير من المنظرين والنظريات المسرحية ومنهم ؛ أرتو ومسرح القسوة ، مايرهولد ومسرح الحركة ، برتولد بريشت والمسرح الملحمي ، وكروتفسكي وايجيونو باربا في أنثروبولوجيا المسرح. ولكن النقد العراقي لم يتخذ من" المشاية" وغيرها، بوصفها حالة أنثروبولوجية أو ثقافة طقسية داخل المجتمع العراقي ، بل تعامل بفوقية ونرجسية عالية في دراسة الفرجات الشعبية بوصفها مظاهر درامية ثقافية ، وكذلك الحال مع مسرح التعزية ، التعازي / التشابيه الحسينية ، رغم أن الأخيرة تتوافر فيها الكثير من مسطرة أرسطو للتراجيديا ، لكن الجانب الطائفي كما تقول الباحثة الروسية( تمارا الكساندروفنا ) قوض فكرة صناعة تراجيديا عربية تضاهي التراجيديات الإغريقية ، لتوفرها على خصائص التراجيديا ومميزاتها ،وربما سنعود إلى ذلك بمقالة أخرى .

وهنا نؤكد بأن الحديث عن ظاهرة(المشاية) ليس بوصفها مسرحاً ، بل ظاهرة درامية فرجوية لتوفر عناصر الممارسة فيها ، حالها حال المظاهر الدرامية الأخرى، لأن( المشاية) تؤدي فعلاً متكاملاً بقصدية اتفاقية في جوهرها وتعبوية جمعية في ظاهرها، يصف أبو الهيل ظاهرة المشاية بوصفها ( سلوكاً جماهيرياً أو كتلياَ لها شكل الرأي العام، لأنها تشكلت من خلال اتفاق أو إجماع آراء مجموعة أفراد و تطوّرت بمرور الزمن لتشكل رأياً عاماً أو اتفاقاً جماعياً لدى غالبية فئات الجمهور اتجاه أمر أو ظاهرة..)(أبو الهيل، ص38) . مصطلح ( المشي) فعل ارتبط بالحركة وعدم الثبات ، ممارسة تتصف بالديناميكية ولهذا أخذت الظاهرة صفة الموصوف ، وعماد الفرجة هو الفعل وعدم الثبات على مستوى التقديم والممارسة ، ولا يمكن تكرار الفرجة مرتين بذات الروحية والديناميكية ، بل تخضع لظروف تقديمها ومدى تفاعل المشاهد والممارس في ذات الوقت ، يحكهما القدرة التواصلية، وينطبق عليها مقولة هراقليطس ( لا يمشي المرء على النهر نفسه مرتين).

إن ظاهرة ( المشاية) تقوم على أساس التفاعل الاجتماعي، فالتمثلات الجمعية التي هي نتاج اندماج وأنصهار العقول الفردية للأفراد الذين هم في ترابط أو تعايش أو اشتراك اجتماعي ( أبو الهيل، ص45)، وركائز ظاهرة المشاية ، نجدها في الفرجة ، حيث ترتكز الفرجة وفق طروحات الباحثين على مسألتين مهمتين : الأولى ؛ البعد التواصلي ، والثانية من خلال الفعل الفرجوي والممارسة في حد ذاتها، ويؤكد رتشادر بومان بأنه( ليس فقط التواصل الذي يتشكل اجتماعياً ، ولكن المجتمع أيضاً متشكل تواصلياً ، بما أنه ينتج ويعاد إنتاجه عبر أفعال تواصلية) ( خالد أمين،الهويات الهاربة، ص32).

و يتمثل في ظاهرة "المشاية "الكثير من المضامين الفكرية الروحية والعقائدية والسياسية ، والأهم هو ؛ طقس اجتماعي شكله الناس/ المجتمع ، لأنه نتاج التشاركية والتوعية والتعبئة الاجتماعية ويزداد مريديها وممارسيها من عام إلى آخر ، رغم إنها بدأت عن طريق مجموعة أشخاص ، وتعددت الروايات على تاريخ بدء الظاهرة ، منهم من أعادها الى مهدها الأول من خلال عودة رأس الحسين (ع) من الشام إلى العراق، حيث أعاد مريدو الحسين الرأس من الشام إلى الجسد في كربلاء ، وتيمناً بهذه الحادثة بدأت ظاهرة ( المشاية) ، وهناك من ربطها بمواليين الحسين من البحارنة و البصريين الذين جاءوا إلى كربلاء لنصرة الحسين واتباعه لكنهم وصلوا متأخرين بعد انتهاء المعركة و وجودوه مقتولاً ، لكن المهم بالنسبة لنا هو فعل المشي، وهو فعل قصدي جاءت الأقدام/ مشت، لإنقاذ أو مناصرة أو ايحاء ذكرى الحسين بن علي ( ع). ولعل أقرب تاريخ ( مؤسس) حديث لهذه الظاهرة وفق مجاهد أبو الهيل هو موكب عزاء طويريج قبل 300 عام. والمهم بأن عمر هذه الظاهرة ذو عمق كبير ومهم وترتبط بمصدر مؤسس لها ، وبدأت مع مجموعة من الناس داخل المجتمع واخذت بالتوسع ، وفي الوقت الحاضر يمارسها الملايين من الناس ومن بلدان عدة يقصدون مدينة كربلاء لأداء طقس المشي ،فظاهرة المشاية ذات تأثير روحي وعقائدي وفكري وسياسي داخل ذهنية وروحية الممارس ، فهي تعبوية تعرف الناس (بثقافتهم)، وكذلك وسيلة اثنوغرافية لإنتاج وعي وثقافة الممارس ، وفي مضمره ينم عن موقف مناهض للسلطات التي رفضته ومنعته بشكل قطعي منذ بدء ثمانينيات القرن الماضي ، وحتى زوال النظام عام 2003، وذلك بسبب تأثيراته السياسية في التحريض الجمعي عند" المشاية" ،مما يشكل وعي ثوري للممارسين وللفرجة ذاتها، و أيضاً تأصيل الظاهرة كفعل اجتماعي مقدس، والأهم بأن كينونة الظاهرة يهدف إلى ترسيخ بعدها الثقافي كطقس اجتماعي عقائدي. و هذا ما تمتاز به الفرجة بخلفيتها المسرحية أيضاً ، أو العوامل التي يتوجب تواجدها بالفرجة عبر فعلها التواصلي. ويؤكد خالد أمين أنه يمكننا ( اعتبار الفرجة أكثر من مجرد محاكاة أو تمجيد لبناءات ثقافية متعالية ومثالية[...] وتبرز الفرجة في الوقت ذاته الذي يتم فيه بناء المجتمع من لدن ممثلين اجتماعيين عن طريق إيحاءات ثقافية مصوغة تحيل على أحداث وتجارب ماضوية بطرق متأثرة)( أمين ، ص20).

ونكرر بأن هدف المقالة ليس اعتماد ظاهرة ( المشاية) عرضاً مسرحياً ، بل ظاهرة درامية فرجوية ، ثقافية، تكتنزها الكثير من العناصر الدرامية وفق ما طرحه الباحثين والنقاد العرب، وليس هذه الظاهرة " المشاية" فقط جديرة بالدراسة والتنقيب ، بل هناك الكثير غيرها مثل ( الكوامة العشائرية، جلسة الفصل العشائري، مجالس العزاء، العراضة ، المهوال ، مراسيم الزواج ) وغيرها ، علينا البحث عن الفرجات الشعبية والدرامية في المجال العمومي والأماكن العامة ، ليس من أجل الريادة أو التأصيل، بل من أجل التدوين العلمي والثقافي؛ و هنا تكمن أهمية النقد ،الحفر المعرفي والتنظير والاكتشاف ، وليس التعالي والتثاقف على المهمش والمهمل في المجتمع. علينا أن نعيد اكتشاف وتدوين الظواهر ذات البعد التواصلي ، وكذلك الظواهر ذات الممارسات الاجتماعية بين أفراد المجتمع.

* مجاهد أبو الهيل : موسم الجنون: المشاية في مراسم الزيارة الأربعينية؛ قراءة سيسيولوجية، دار العالم للطباعة والنشر،بغداد، ط1، عام 2019.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

مقالات ذات صلة

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة:  صفقة مع الخطر
عام

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة: صفقة مع الخطر

ألِكْس كورمي* ترجمة: لطفية الدليمي بينما أكتب الآن هذه الكلمات يرسلُ هاتفي النقّالُ بطريقة لاسلكية بعضاً من أعظم ألحان القرن الثامن عشر (مؤلفها الموسيقار العظيم باخ لو كنت تريد معرفة ذلك!!) إلى مكبّر الصوت...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram