TOP

جريدة المدى > عام > ماالأدب ؟

ماالأدب ؟

نشر في: 14 إبريل, 2020: 06:23 م

ترجمة وتقديم: لطفية الدليمي

أقدّمُ أدناه، وفي أقسام متسلسلة لاحقة، ترجمة للفصل الأوّل من الكتاب المعنون (الأدب: لماذا يهمّنا؟ Literature : Why It Matters ?)

لمؤلفه البروفسور روبرت إيغلستون Robert Eaglestone . الكتاب منشور عام 2019، ويمكن للقارئ الشغوف مراجعة كتابي المترجم (الرواية المعاصرة: مقدمة وجيزة) المنشور عن دار المدى لكي يتحصّل على تعريف مسهب بالبروفسور روبرت إيغلستون وأعماله المنشورة.

المترجمة

القسم الرابع

إذا كان لعملٍ أدبي ماضٍ؛ فينبغي أن يكون له حاضرٌ أيضاً. يُبدي الكُتّابُ إستجاباتٍ - واعية كانت أم غير واعية - تجاه العالم الذي يعيشون فيه، وتتخذ تلك الاستجابات أشكالاً متباينة وعبر وسائط مختلفة: المسرح، التلفاز، والمخرجون السينمائيون الذين يعدّلون صياغة مسرحيات ذائعة الصيت بغية جعلها قادرة على تناول الهواجس الإنسانية. أنت ايضاً - بصفتك قارئاً -، وعلى شاكلة الشمعة الموضوعة أمام المرآة المخدوشة، ليس في مستطاعك سوى أن ترى النص المقروء بمقدار مايمتلك من علاقة وثيقة مع ذاتك وحياتك. إنّ كلّ نص، حتى لو كان مُستلاً من الماضي البعيد أو العهود الأقرب، يوجدُ - بمعنى يُقراُ - في سياق الحاضر، وأنت - القارئ - تمثلُ حاضر الأدب، وقد بدأتَ للتوّ في التفاعل معه. تحدّثْ إلى النصّ الذي تقرأ؛ فبالحديث مع هذا النص تتشكّل صيرورة الأدب ومستقبله. الاستجابات الإبداعية تكمنُ في ذوات الكُتّاب بالتأكيد؛ لكنها تكمن أيضاً في ذوات القرّاء، والمحرّرين، والمستمعين، والمتحدّثين، والحافظين للتقاليد الأدبية، ومدرّسي الأدب. أنت لاتعرفُ بالضبط إلى أي الأماكن قد يصل النصّ الأدبي أو إلى أية تخومٍ قد يقودك.

المحادثة الحوارية الحقيقية هي، في صورتها المثالية، حرّة من أيّ قيد. هي ليست محادثة طنّانة أو باعثة على الهواجس المقلقة المصطنعة، وهي ليست محادثة تنطوي على سلسلة أوامر أو تعليمات، مثلما هي ليست توضيحاً موغلاً في الجهد المكلِف، وليست توسلاً بلغة تبتغي المخادعة أو استعراض السلطة. إنّ المحادثة الحوارية المثالية هي شيء يمكن لأيّ واحدٍ فينا أن يقوله، ويحدثُ الأمر في العادة بكيفية أقلّ ممّا ينبغي أن تكون عليه؛ ولكن برغم ذلك فعندما نتحدّثُ مع شخصٍ ما فإننا، بطريقة أو بأخرى، نعلنُ مساواتنا المتكافئة مع مَنْ نتحدّثُ إليه، ومن أجل ذلك صار الأدب موضوعة أبعد مدى من كونها قادرة على تناول أيّ شيء، وقد تكون عصية على التعريف؛ بل توجّب عليها أن تكون محادثة حوارية بين أطراف متكافئة يمكنها أن تقول أيّ شيء بحرية كاملة. تنطوي هذه الخصيصة ذات العلاقة بحرية قول أي شيء على بعض النتائج المهمّة، وإحدى تلك النتائج - التي تنطبق بخاصة على دارسي الأدب ومعلّميه - هي تلك التي تعلي شأنها (دوريس ليسنغ) عندما تكتب مُنافِحةً عن "وجود طريقة واحدة فقط للقراءة - تلك هي أن يتطلّع المرء في رفوف الكتب المرصوصة في المكتبات ومحلّات بيع الكتب، ومن ثمّ يلتقط الكتب التي تجتذبه دون غيرها، والإنغماس في قراءتها دون سواها، وإزاحتها جانباً عندما تتسبّبُ في الملل أو الضجر، أو إسقاط قراءة الأجزاء التي لا تستثير ذلك المرء، والأهمّ من كل شيء هو أن لايقرأ المرء (أبداً، أبداً، أبداً) أي كتابٍ بدافعٍ من محض شعوره بوجوبية قراءة هذا الكتاب - لأيّ سبب كان - أو لأنّ قراءة هذا الكتاب تأتي في سياق توجّه فكري أو في إطار حركة فكرية" ( 9 ) . أشعرُ من جانبي، وباعتباري معلّماً متمرّساً للأدب، بشيء غير قليل من التناقض الصراعي بشأن هذه النصيحة التي أعدّها صحيحة؛ إذ من البديهي أن يقرأ طلبتي قائمة ملزمة من الأعمال الأدبية التي أشاركهم قراءتها بحسب الخطة الدراسية الموضوعة؛ لكني في الوقت ذاته مدرِكٌ تماماً أنّ إقسار أي شخصٍ - طالباً كان أم قارئاً عادياً - على قراءة روايةٍ أو قصيدة - يمكن أن يكون فعالية قد تغيّرُ كامل التجربة الأدبية (على النحو الذي سأناقشه لاحقاً) .

لكن ثمة بعض النتائج الأوسع نطاقاً التي تترتّبُ على هذه الحرية: العلاقة الوثقى بين الأدب والكيفية التي نعيش بها في هذا العالم فضلاً عن مشاركته مع بقية الناس (أي مانسمّيه - إصطلاحاً - سياسة). إنّ استحالة تحديد نطاق - أو تحجيم - مدى وشكل الأدب المُنتَج هو السبب الذي يدفعُ الحّكّام الشموليين لحظر بعض الأعمال الأدبية، كما يوضّحُ السبب الذي يجعل بعض الكُتّاب (والقرّاء كذلك) عُرْضة للاضطهاد في أحيانٍ كثيرة، وقد كتب الكاتب سلمان رشدي Salman Rushdie في هذا الشأن: "الفعاليات الإبداعية تشبه إلى حد كبير الفعاليات السائدة في أيّ مجتمعٍ حرّ؛ فالعديد من التوجّهات والرؤى في العالم والتي لا تنفكّ تتزاحمُ وتتصارعُ في روح الكاتب - الفنّان هي التي تشعلُ جذوة الاحتكاكات التي تنتهي لتكون عملاً أدبياً في نهاية الأمر. هذه الفاعلية الصراعية متعدّدة الأقطاب والتي تعتملُ في داخل الفنّان - الخالق (الكاتب الخلاق في الأدب) تبقى فاعلياتٍ عصية على التحمّل من جانب الكاتب في أغلب الأحيان، دعك عن القدرة على توضيحها للآخرين" ( 10 ) . إذا كان هذا الأمر صحيحاً بالنسبة للكُتّاب في سياق المحادثات الحوارية التي يحفّزُها كلّ عملٍ أدبي؛ فسيكون صحيحاً أيضاً بالنسبة للقرّاء أيضاً. كتب الشاعر البولندي الحائز على جائزة نوبل تشيسلاف ميلوش Czeslaw Milosz "أنّ الشعر يذكّرُنا كم هو شاقٌ أن يظلّ المرء كلاً واحداً موحّداً؛ لأنّ بيتنا مُشرَعَةٌ نوافذُهُ، وليس ثمة من مفاتيح في الأبواب، والضيوف غير المرئيين يدخلون ويخرجون أنّى يشاؤون" ( 11 ) .

يبدو هذا الأمر قريباً إلى فكرة أنّ كلّ الأدب هو تمثّلٌ لوجهة سياسية حتى لو بدا مفارقاً بعض الشيء لهذه الفكرة. إنتهى جورج أورويل George Orwell إلى قناعةٍ مفادُها أنّ كلّ الأدب - وكلّ الفن كذلك - ليس سوى نوعٍ من الدعاية (البروباغاندا) التي تُعدُّ أداة سياسية؛ في حين أنّ الكاتب الفرنسي موريس بلانشو Maurice Blanchot، وفي موقف مخالف لأورويل، رأى أنّ الأدب ليس بمستطاعه التنافس مع السياسة باستخدام الوسائل السياسية ذاتها. الإثنان محقّان في رؤيتهما وإن انطوت على بعض التناقض: يشبه الأدب - بعض الشيء - محادثة حوارية سرية تُمرّرُ لك عبر همساتٍ تختصُّ بك أنت وحدك؛ لكنها في الوقت ذاته تشبه - بعض الشيء أيضاً - خطاباً سياسياً موجّهاً للعامّة ويجري التشارك به والحديث عنه والمجادلة المستديمة بشأنه من قبل العامّة. أؤكّد مرّة ثانية: هذه الثنائية المتزامنة في خواص الأدب هي جزءٌ أساسي في عدم تمكّننا من بلوغ تعريف مناسب للأدب، وإنّه لأمرٌ صحيح بالتأكيد إذا ماقلنا أنّ حرية الأدب في قول أيّ شيء يمكن أن يكون خاصّاً وعامّاً في الوقت ذاته هو ما يجعلُ الطغاة المستبدّين والحُكّام الشموليين الذين يسعون للإمساك بقبضة حديدية مسيطرة على عوالمنا الخاصة والعامّة يتشاركون الشعور بالإنزعاج المفرط من الكُتّاب والقرّاء معاً.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

مقالات ذات صلة

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة:  صفقة مع الخطر
عام

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة: صفقة مع الخطر

ألِكْس كورمي* ترجمة: لطفية الدليمي بينما أكتب الآن هذه الكلمات يرسلُ هاتفي النقّالُ بطريقة لاسلكية بعضاً من أعظم ألحان القرن الثامن عشر (مؤلفها الموسيقار العظيم باخ لو كنت تريد معرفة ذلك!!) إلى مكبّر الصوت...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram