لطفية الدليمي
" لم أكن أعلم أن ملمس الكتب العتيقة يمكن أن يجلب كل هذه السعادة "
لأنني مولعة بأفلام الممثل العبقري أنطوني هوبكنز والفنانة المدهشة في أدائها الساحر (آن بانكروفت) فقد شاهدت فيلم (84 تشيرنغ كروس رود ,,,84 Charing Cross Road) مرتين؛ مرة للتمتع بأدائهما وثانية لموضوعة الفيلم التي تناولت العشق الكاسح للكتب المعتقة والأدب الانكليزي وهيمنته على وقائع حياة الكاتبة ( هيلين هانف ) حتى تحول هذا العشق إلى هوسٍ مسوغ لوجودها ونبعٍ مغذٍّ لأحلامها، وقد ازدهرت حول هذا العشق الغريب علاقة رومانسية دراماتيكية بين (فرانك دويل) الكاتب اللندني وبائع الكتب المستعملة، وبين الكاتبة المسرحية الأميركية هيلين هانف عبر الرسائل المتبادلة .
كتبت الكاتبة الحقيقية "هيلين هانف" بالاشتراك مع هيو وايتمور سيناريو الفيلم القائم على مراسلاتها مع فرانك دويل تأسيساً على كتابها (84 تشيرنغ كروس رود) الذي صدرت طبعته الأولى في 1970 وضمّ الرسائل المتبادلة بينهما طوال عشرين عاماً من 1949 حتى 1969. حولت هيلين هانف الكتاب الى مسرحية عرضت في نيويورك أول الأمر، ثم قدمته كتمثيلية تلفزيونية وأخيراً كفيلم أخرجه (ديفد جونز) عام 1987 وحظي بجوائز عدة منها جائزة البافتا البريطانية عن السيناريو والتمثيل .
تُسحرنا هيلين هانف في بحثها المهووس عن الكتب القديمة التي لاتجدها في مكتبات نيويورك؛ لكنها تعثر في كشك للصحف على مجلة لعروض الكتب نشرت إعلاناً عن مكتبة لندنية تبيع الكتب المستعملة باسم (ماركس وشركاؤه) للكتب الأثرية وتقع في (84 تشيرنغ كروس رود) في وقت إنهارت فيه سوق الكتاب بعد الحرب العالمية الثانية عندما شحّت الموارد والأطعمة وكانت حصة الفرد الواحد 12 غراماً من اللحم أسبوعياً وبيضة واحدة في الشهر، وكان من الطبيعي في ظل هذا الوضع الإقتصادي المتعسر أن يبحث الناس عن لقمة تسد الرمق بدل شراء الكتب باستثناء كاتبة مولعة بكتب الأدب الإنكليزي التي ماعاد أحدٌ يهتم بها في نيويورك الغارقة بالمصنوعات الحديثة والكتب المعاصرة.
تكتب هيلين هانف الكاتبةالنيوروكية على آلتها الكاتبة رسالة الى أصحاب المكتبة وتطلب عناوين محددة ويرد عليها فرانك دويل برسالة مكتوبة بخط اليد - مفارقة الحداثة التقنية الأميركية مقابل التقاليد البريطانية- وتصلها رزمة من الكتب فتركض منتشية مسحورة وهي تحمل أول جواهر كنزها الذي سيضم نوادرالأدب الانكليزي، وتتوالى الرسائل بينها وبين فرانك (انطوني هوبكنز) : يناقشان مضامين كتب ستفينسون وبليك وجون دَن وليفز وغيرهم ،وتتحول الرسائل المتلاحقة إلى محاورات ثقافية وسجالات بشأن الكتب وطبعاتها العتيقة وتتمحور حياة هيلين وفرانك حول هذه الرسائل التي تهيمن كلماتها بصوتيْ فرانك وهيلين في الفيلم على الأحداث وتطفو كسحابة من الشغف الرومانسي الحالم بين الشخصيتين، ويعيش كلاهما في انشغال دائم لصياغة مفردات الرسائل وهما يمارسان حياتيهما - فرانك مع زوجته نورا ( جودي دينش) وابنتيهما، وهيلين وحلمها الجامح بالسفر الى لندن ، وعندما تسافر صديقتها الممثلة المسرحية الى لندن تطلب منها زيارة المكتبة لتصفها لها لدى عودتها ،وتخبرها الصديقة أن لندن تعيش شبه مجاعة بعد انتهاء الحرب فترسل هيلين الى أصحاب المكتبة صندوقاً من المعلبات واللحم والبيض توردها شركة دانمركية الى لندن، ويتقاسم موظفو المكتبة في مشهد درامي فريد (الهبة الأمريكية) في إشارة رمزية تهكمية الى الرخاء الأميركي الذي يبادل الطعام بالثقافة البريطانية. بعد وفاة فرانك بسنوات تسافر هيلين إلى لندن وتزور المكتبة المهجورة لتشهد حطام زمن ثقافي وعشق تلاشى وأطبق عليه غبار الأعوام.