ستار كاووش
حين أتجول بدراجتي مساءً على شاطئ البحر في مقاطعة فريسلاند التي أعيش فيها ويلفحني الهواء الرطب الفريد الذي اختلطت فيه رائحة أعشاب البحر وملوحة الماء وما علق بشباك الصيادين، أو أن امرُّ وسط باعة الزهور ويختلط عبير الورد مع ألوان التوليب يتناثر على وجوه المارة،
أو تصلني قبل أن أهمُّ بالدخول الى حانة الأخوات الثلاث، النكهة المميزة التي امتزجت فيها رائحة خشب الطاولات القديمة التي التصقَ بحافاتها بعض الشراب، مع رائحة القهوة ونفحات كؤوس الزبائن وعطر الفتيات الجميلات، أو ما أفعله كل يوم وأنا أفتح باب المرسم صباحاً ويواجهني شذى اللوحات ورائحة الألوان التي اعرفها اكثر من أي شيء آخر، عندها أشعر بلغة خاصة تسمى العطر، تعطي للأماكن رائحة وتمنحها هويتها.
ما زلت أتذكر السنوات التي عشتها في مدينة كييف الرائعة، وأستعيد تلك الرائحة التي كانت تنبعثُ من كل زاوية فيها، لا أكاد أهم الدخول لأي مكانٍ هناك دون ان تلفني تلك الرائحة بردائها وكأنها تحييني وترسم لي شخصية المدينة. كانت رائحة كييف مزيجاً من ثلاث روائحٍ، هي رائحة التفاح والحليب والفودكا، اجتمعتْ لتصبح عطراً واحداً يشير الى كييف دون سواها، حيث يصعب عليًّ نسيان ذلك ما حييت. وكما للمدن والأماكن والأشياء روائحها، فللناس ايضاً عطورهم التي نستجيب لها ونستحضرها معهم عند كل لقاء أو التفاتة وداع أو رغبة وانجذاب، أو ربما مشاعر لا يمكننا البوح بها، لذا نحن نتذكر الناس ونستدعيهم في أحيان كثيرة بسبب عطورهم وروائحهم المميزة.
زرتُ ذات مرة مع صديقة لي متحف لاهاي، وبينما كنت اقف امام إحدى اللوحات. قلت متعجباً بصوت خافت تملأه النشوة ( أووووه) عندها اقتربت مني صديقتي الغيورة متساءلة (هل هذه الأووووه جاءت بتأثير اللوحة أم بتأثير عطر المرأة التي مرت الآن خلفك؟) فكذبتُ عليها قائلاً (بالتأكيد بسبب العطر الآخاذ للمرأة التي مرت) كنت لا أريد ان أخدش نباهتها كإمرأة ولا أبخس استنتاجها، رغم اني في الحقيقة كنت متأثراً باللوحة.
أكذب بالتأكيد حين يتعلق الأمر بالعطر، فهو بالنسبة لي كذبة جمالية، كما هو الرسم أيضاً، فهو_أي العطر- شيء خفي، ساحر، ماكر وجميل أيضاً، أنه مثل كائن غامض يقترب مِنّا على أطراف أصابعه خلسة، كي ننساب بصحبته في فيض من النشوة اللذيذة. العطر هو الدلالة التي تقودنا الى روح الأشياء ونحن في خدر محبب، لذا ينتابنا في حضرته ذهول جمالي مثل المشي أثناء النوم. هو قمر معلق على نافذة الغرفة، يضاء عند مرور امرأة فاتنة أو لحظة إشراق فكرة مبتكرة أو حال تسلل طيف جميل. لا شيء غير العطر يميل برؤوسنا نحو الأعلى دائماً، كي نُنَزِّه نفوسنا في القمة ونحن نفوز بنبرته الفريدة، وهذه اعظم سماته وأرفع معانيه، لذا مع أي اختلاجةٍ صحبة العطر نميل برؤوسنا نحو السماء، وكأننا نشكرها على هذه العذوبة التي تتجدد كل مرة بذات البهجة والتأثير والسمو. هو رفعة الغواية وفتنة الصنعة الممزوجة بلهفة لا يحد جمالها حدود، انه احتفاء الجسد بالروح، هو الذهب وقد تحول الى رائحة.
سنبقى نمشط أرواحنا بالعطر، وقت انسيابه على سحناتنا بعمق فريد مثل قصيدة، ونطرب له كما لو كان أغنية تتغلغل بين ملامحنا، أو جرس تهتز له مساماتنا برغبة ونعومة ونعاس مخادع. إنه باب موارب يخفي خلفه حكايات ورغبات عشق لا ينتهي، وهو الحد الفاصل بين خصلات شعر تتدلى بخجل على جبين فتاة مراهقة، ولوحة مرسومة منذ عصور بعيدة مضت، نستحضرها عند أول خطوة باتجاه من نحب. العطر طائر مطوق بالغموض والخيال، لذا غالباً ما يكون صحبة العشاق وحراس المخادع السرية.
سيظل العطر يعيش بيننا ويتنزه أمام مرآنا ويشير الى لهفتنا الأزلية بعفوية ولطف، لأنه بستان حياتنا وحديقة ارواحنا التي نغفوا على اطرافها عند تعب الروح وشهقة الجسد وتدفق الخواطر الرفيعة.