توثيق لتداعيات الحرب اللبنانية
علاء المفرجي
شاهدت الفيلم الوثائقي للمخرجة اللبنانية رين متري ( لي قبور في هذه الأرض )، أول مرة في مهرجان دبي السينمائي عام 2014، وكان ذلك عرضه الأول، وأعود للكتابة عنه بعد هذه السنوات، لأستغل الذكرى ال 45 لاندلاع الحرب الأهلية في لبنان، وبوصفه (أي الفيلم) أحد أجمل الوثائقيات التي تناولت هذه الحرب وأكثرها إحاطة بتداعياتها وتفاصيلها.
وأحسب أن أهمية الفليم ونجاحه نقديا على الأقل لم يمسه قرارالمنع من الأمن العام اللبناني تجاريّاً، لكنه بالتأكيد حرم عشاق السينما وبشكل خاص المهتمين بالمشكل اللبناني من فرصة مشاهدته.
في (لي قبور في هذه الأرض)، تبدأ رين متري من قصة الأرض التي تملكها عائلتها في عين المير في قضاء جزين ـ جنوبي لبنان التي قررت بيعها وردّ فعل محيطها تجاه قرار بيع أرضها لمسلم ثم تنتقل للبحث في تاريخ التهجير الطائفي الذي طاول المسيحيين في قرى شرق صيدا، راسمةً خريطة أوسع - تسميها المخرجة (خارطة الخزف)- للتهجير الطائفي القسري وفظاعة العنف المتبادل بين الطوائف في بيروت والجبل عبر الشخصيات المختلفة التي تقابلها.
والمخرجة في فيلمها هذا يتراجع هذا الموضوع، اعني موضوع العقارات المنهوبة، أو تلك المستحوذ عليها بموجب قانون مبرم على قياس الأقوى، يتراجع لصالح سعيها المضني في توثيق دوافع ومجريات هذه الحرب، التي استنزفت خمسة عشر عاماً ومازالت من تاريخ لبنان عبر الغوص في كل تفاصيلها، أو بمعني أصح تستثمر موضوعها، الذي بدا شخصياً، لسرد ما صار إليه الحال، بالضبط كنتيجة من النتائج المنطقية لهذه الحرب الضروس؛ والتي مازال اللبنانيون يقاسون من تبعاتها.
الفيلم لايكتفي بسرد أحداث الحرب من خلال الصور والشهود، بل يطرح قضية مهمة خلفتها الحرب ومازال اللبنانيون يعانون وطأتها، ثم إنه يتناول حدثاً لم يمض عليه أقل من نصف قرن والأشخاص الذي عايشوا هذا الحدث أغلبهم أحياء بل البعض منهم من متضرريه، ويكفي أن نذكر منهم المخرجة نفسها. لذا فإن ذلك ينفي أحد عناصر التبرير في قرار المنع، من كون الفيلم لايعتمد الوثيقة وصدقيتها، بل يعتمد أحاديث الناس (الشهود).. فاذا كان الشهود في الفيلم الوثائقي ليسوا جديرين بقول الحقيقة، مثلما تفعل الوثيقة مثلاً؛ لكن الاعتماد على كل ماهو حقيقي وعياني من شخصيات وأماكن أو أفعال في التعامل مع الواقع المعاش، هو من صلب مهمة الفيلم الوثائقي، فما بالك في اختيار شخوص عاشوا الحدث ونالهم منه، أن يكونوا موضع شك.
شكّلت المخرجة فيلمها بالأعتماد على مجموعة كبيرة من الصور الأرشيفية التي نشرتها صحف لبنانية مثل السفير والنهار، أثناء الحرب واستعانت بشهادات حية من شهود بخلفيات مذهبية وطائفية وجغرافية متنوعة، وهناك فلسطينيون تعرضوا لمجازر في لبنان في تل الزعتر وجسر الباشا وغيرها من مناطق الصراع.
فالأمّ الفلسطينية تتحدث عن رحلة عائلتها في مناطق مختلفة،وخسارتها لابنها. عبر لقطات مؤثرة عن تفاصيل هذه الرحلة والخسارة التي تعرضت لها لتجهش في البكاء عندما تذكر خسارتها لابنها "خرج علي ولم يعد". أو تلك المرأة التي تهاجر من الدامورلتتحدث عن ذبح صديقتها وعائلتها، أو تلك المرأة التي تدعو لعدم التذكر، فتفاصيل المأساة التي عايشوها أكبر من الحديث عنها.
التهجير وخلق الكانتونات كان عنوان النصر لأمراء الحروب، فالفيلم تناول التهجير، وخاصة في واقعة سقوط قرية الدامور عام 1976 ، والاستعانة بشهود من المدينة نفسها أو من العائدين لها، واشتعال الحرب العقارية فيما بعد.
وكانت التجربة التي خاضتها رين متري ببيع أرضها، ومن ثم بيع والدتها لدارهم في الضيعة بعد عامين، والتي تقول عنها ، كانت أمام شعور جارح بأن جزءاً من روحها ستتخلى عنه.. كفيلة لأن تؤطر رحلتها هذه بالخوف من المناطقية والديموغرافية بين المجتمع اللبناني لتخلق رهاباً ديموغرافياً بين السنّة والشيعة والمسيحيين، لتسكنها ذكريات هذه مذابح الحرب والقتل على الهوية لينتهي لبنان الى اصطفافه طائفياً ومذهبياً، فتسيّد أمراء الحرب المربعات التي غنموها لتتساءل متري:هل هذا هو التعايش الذي يتغنى اللبنانيون به؟
الفيلم رغم حساسية موضوعه وإشكاليته، التي قادت الى قرار منعه، إلا أنه امتلك القدرة على التأثير، بامتلاكه الشروط الفنية والجمالية، من دون أن يكون بياناً، أوخطاباً، إعلاناً، كما في العديد من الوثائقيات؛ فالمادة التي استلتها المخرجة لفيلمها تتركز فيما اختزنته في ذاكرتها من تاريخ بلدها. ورحلاتها الى المناطق التي شهدت الأحداث، وكذلك من الصور والخرائط التي علقتها على الجدران، ومعرفة حقيقية في قراءة الأحداث.