ثائر صالح
انعكس تأثير الأوبئة الفتاكة على وعي الإنسان في صور عديدة، لعل أحد أمثلتها ما يعرف برقصة الموت (Danse Macabre)،
وهي جنس أدبي وفني ظهر في أواخر القرون الوسطى، تحديداً في القرن الخامس عشر بالتزامن مع انتشار موجات الطاعون في أوروبا. وكلمة ماكابر فرنسية ذكرت في القرن الرابع عشر في سنة 1376 تحديداً، لا يعرف لها أصل اتيمولوجي دقيق، لكنها تذكرني بكلمة مقابر العربية، فهل لها صلة بالتأثيرات الأندلسية؟ الغرض من هذه الأعمال أخلاقي هو التذكير بأن الموت لا يفرق بين الناس، لذا تتكرر شخوص محددة في هذه الأعمال بشكل دائم هي البابا والامبراطور والملك والطفل والحرفي. والحكمة هي أن المرتبة الاجتماعية والثروة لا تنقذ الإنسان من مصيره في دعوة أخلاقية للعمل الصالح. وهناك جنس فرعي هو "العذراء والموت" أو "الحسناء والموت". صور الفنانون الموت على هيئة هيكل عظمي يحمل أحياناً المنجل الأوروبي الذي يحصد به الأرواح، وهو ما كان يحدث بالفعل أيام الوباء الذي يحصد الناس حصداً. قدمت هذه الأعمال تمثيلاً في الأصل، في القرى والمدن بطريقة بسيطة، في ساحات السوق على الأغلب.
يعدّ الموضوع من الموتيفات التي تناولها الفنانون بشكل مستمر في القرون الوسطى، تشكيلاً وموسيقى وشعراً. وشهد القرن التاسع عشر إحياء الموضوع، فقد كتب فرانس شوبرت (1797 – 1828) رائعته الخالدة "الموت والحسناء" سنة 1817 وهي حوار قصير بين الحسناء الشابة التي تترجى الموت أت يتركها ولا يلمسها، فيهدئها الموت: "أعطني يدك أيتها المخلوقة الجميلة الرقيقة، أنا صديق ولم آت لمعاقبتك، ... ، ستنامين بهدوء بين ذراعي". وقد استعمل شوبرت اللحن في الحركة الثانية من الرباعية الوترية رقم 14 التي كتبها سنة 1824 بعد مروره بمرحلة مرض اقترب فيها من الموت، وهي رباعية داكنة اللون.
كتب فرانس ليست عمل بعنوان رقصة الموت سنة 1849 استند فيه الى لحن مقطع شهير من القداس الجنائزي اللاتيني عن يوم الدين (Dies irae) الذي استعمله كذلك قبله أكتور برليوز في الحركة الأخيرة من سيمفونيته الفنطازية لتصوير مشهد الإعدام ورقصة الساحرات. أطلق ليست صفة "paraphrase إعادة صياغة" على هذا العمل وليس تنويعات على اللحن كما هو متبع.
بين أشهر الأعمال في هذا الموضوع عمل كامي سين – سانص "رقصة ماكابر" الذي ألفه سنة 1874 لأوركسترا وكمان منفرد، لكنه لم يستقبل بحماس في وقته لكنه يتمتع بشهرة كبيرة اليوم. تطرق الى موضوعة رقصة الموت موسيقيون آخرون مثل مودست موسورسكي (أغاني ورقصات الموت)، وسرغي رخمانينوف (القصيدة السيمفونية "جزيرة الموت" بتأثير لوحة بنفس العنوان لفنان فرنسي)، كما اقترب منها غوستاف مالر في الحركة الثانية من سيمفونيته الرابعة، وكذلك دمتري شوستاكوفيتش في الحركة الرابعة من ثلاثية البيانو رقم 2.