TOP

جريدة المدى > عام > نازك الملائكة ناقدة مفكرة

نازك الملائكة ناقدة مفكرة

نشر في: 26 إبريل, 2020: 08:24 م

د. نادية هناوي

ما كان لنازك الملائكة أن تتصدر الحداثة النقدية لولا أنها بحثت خارج إطار المنظومة النقدية الذكورية طامحة بلوغ معايير في التعامل النقدي تتعاطى تحليل النص بروح غير متحرزة من تعددية الرؤية النقدية،

بيد أن مشروعها الرائد هذا لم تقابله المنظومة الأبوية بالحفاوة لا بسبب اختلافه وخروجه على النسق المعتاد وإنما هي رؤيته المستقبلية للنقد التي ما استوعبها النقاد المجيلين لها الاستيعاب التام، ولذلك لم يقدروا نازك الملائكة كناقدة وظل تقديرهم لها والنظر إلى انجازها مقصورا عليها كشاعرة، وانسحب هذا التقدير من ثم على سائر فاعلياتها الانسانية الاخرى مربية واستاذة ومحاضرة. وهي التي طالما رفضت الحديث عن تجربتها الشعرية متهيبة من خطورة أن تكرر نفسها.

ولو نظرنا إلى نازك الملائكة بمعزل عن صورتها كشاعرة لاعترفنا لها بأنها صاحبة مشروع هي فيه ناقدة مفكرة تمتلك منظوراً أصيلاً وجديداً لا يختلف عن مشاريع كبار النقاد الغربيين كريشاردز واليوت وبارت، نظرا لما أعلنته عملياً ونظرياً من رفض للتقليدية والمعتادية في النقد، جامعة السيرية بالنصية وعلم النفس بالالسنية والسياقية بالمحايثة.

ولأنها نأت بنفسها عن التقوقع على التراث النقدي وانفتحت على النقد الانجلوسكسوني، استطاعت تشييد فضاء فكري واع في النقد العربي يبتعد عن الذاتية والفوضى ويرفض الاقصاء والتنابذ في التعامل مع الذات والموضوع. وما اتجاه نازك صوب الاختلاف في النظر إلا بحث عن التجانس في النقد الذي ليس فيه استهلاك؛ بل انتاج لصيرورة جديدة للجمال لا تميز الموضوع عن شكله. 

وليس للناقد أن يبلغ الاختلاف ويبتعد عن التكرار إلا إذا آمن بالتفكر في فلسفة الإبداع، وسعى نحو التجديد هوية وذاكرة ووعياً وتمثيلاً. وهو ما تجسد عند نازك الملائكة في أغلب كتبها، لتكون في مقدمة النقاد العرب الذين ألهمهم حسهم الإبداعي أصول الاختلاف، وقد تقابلَ عندهم الفكر الحسي بالحس الفكري والأمثولة بالمؤمثل برؤى فاحصة تستلهم الماضي وتستقبل القادم متنبِئين بجديده. 

وقد أساء بعض النقاد فهم هذه التضادية عند نازك الملائكة، ومنهم عبد الجبار البصري الذي وجد أن مفاضلتها بين الشعر الحر والشعر العمودي غير موضوعية لأن فيها تعصباً وتحيزاً واعتسافاً، واجداً في اهتمامها بالشعر الحر عاطفة أمومة بارة تريد أن تجنب وليدها مزالق خطرة بلغة تربوية ناصحة، وكأن لا إعمال للعقل لدى الملائكة وهي تنظر لهذا الشعر، لتستجيب من ثم للضغوط وتعدل بعض النصوص المتعلقة بحاجة الشعر إلى قيود تحقق له الاتزان، لينتهي إلى أن توقعات الملائكة عن مصير الشعر الحر لم تنسجم مع ما كانت قد أسست له في بيانها الأول.

وأولى بوادر تضادية نازك الملائكة النقدية مع النقاد الرجال هو نظرتها المتعالية على الجسد والمنساحة في الأبعاد الفكرية التي تنطوي عليها روحانية ما يفرزه النص الشعري من ذلك مثلاً ما وجدته في قصائد علي محمود طه من تعارض بين جانبي الصومعة ( المرحلة الروحية) والشرفة الحمراء( المرحلة الجسدية) اللتين لم تنكر أيا منهما وإنما صاغت نظرية تفسيرية تستوعبهما معاً، محاولة الوصول إلى حكم شامل لتفاصيل الموقف كلها مؤكدة أن الاختلاف بين الجسدية والروحية الخالصة يتلاشى إذا ما سلمنا بفكرتي الهروب النفسي والالتصاق بالواقع، وهذا الاختلاف بالاتفاق والتضاد بين هاتين الفكرتين هو الذي يجعل الافق النظري للنقد أفقاً مستوعباً أكثر من منهج، ولهذا لا تجرم نازك الملائكة الشاعر في تعليلاتها كما لا تصدر أحكاماً قاطعة في أعقاب تحليلاتها. 

ونازك مقتنعة أن الرؤية السيرية أو التاريخية التي تقتضي الرجوع الى أقرب الناس الى الشاعر ورسائله الشخصية هي رؤية تقليدية لكن اقترانها بالرؤيتين النفسية والجمالية سيزيدها عمقا وفلسفة. وهذه انتباهة نقدية سابقة لأوانها على مستوى النقد العربي أعني المزاوجة بين أثر السيرة والدراسة الخالصة. وبهذا تدخل نازك الملائكة منطقة الوصف وتغادر منطقة التقدير، رافضة الأحكام العجلى التي لا تتأمل او لا تستغور الحدود الشاسعة.

ومن بوادر التضادية النقدية الهيمنة التي جعلت نازك الملائكة تتحول من كيان مكتوب عليه أن يكون ضحية للاخر( الناقد والناشر والمصحح اللغوي) إلى كينونة كتابية عليها أن تعترف، ومن ذلك قولها: ( فصيغ حولي سياج عال من الفرضيات الخيالية، ولست أشك في أن سواي من الشعراء قد تعرضوا لمثل هذا الظلم أيضاً فذهبوا طعماً سهلاً لنظرية هوجاء لا يعرفون لها أساساً في حياتهم )( الصومعة والشرفة الحمراء، ص14) مكاشفة قارئها بدواخل النقد لديها غير متوانية عن إعلان رغبتها في التضاد النقدي. هذا التضاد الذي جعلها تعترف على الآخر الذي اعتقد أنها أضعف من الاعتراف، ومن ذلك اتهامها الشاعر صالح جودت الذي كان زميلا للشاعر علي محمود طه بنشر رسالة شخصية كانت قد بعثتها إليه في إحدى صحف القاهرة واصفة إياه بقلة الذوق لعدم استئذانها في النشر ووسمته باللاحضارية، وما اعترافها هذا سوى إشهار بهيمنتها وتدليل على اختلافيتها. 

واختلاف نازك النقدي جعلها توجه الاتهام واللوم لبعض المصححين والناشرين الذين لم يحترموا مكانتها وقدرتها اللغوية فراحوا يغيرون في طباعة نصوص كتابها موضع الرصد جاعلين الصحيح غلطاً، فمثلا شطب المصحح عبارتها( ساهم مساهمة) بالفعل الغالط الشائع( أسهم إسهاما) وأبدل(كلتا المسرحتين) ب( كلتي المسرحيتين) ظناً منه أن كلتا تعرب بالحروف حتى وهي مضافة الى اسم ظاهر وبجرأة تصف نازك هذا الفعل وما يشاكله ب(صلافة الجهل) و( التعالُم) معتبرة ظاهرة تخطئة المصحح للمؤلف ظاهرة خطيرة على دور النشر أن تنتبه إليها ملزمة المصححين بالتعبير عن وجهة نظر المؤلف كي لا ينسب إليه ما ليس له. 

وتصرح بوجهة نظر نقدية تنطلق فيها من ذات متعالية تتسم بالصرامة وهي ترى أن المؤلف إذا غلط فهذه مسؤوليته أمام القارئ يدلل بها على وجهة نظره ومستواه الفكري أما المصحح الذي يصحح فيبقى مجهولاً وإن صحح ولن يحاسبه القارئ لانه أخطأ أو أنه صحح. ولا يقتصر لومها على المصححين وحدهم بل تتجاوزه الى بعض الناشرين الذين لا يقفون الى صفها في شكواها. وفي هذا تعبير عن جرأة، سببها النزوع القوي لديها نحو الاختلاف. 

واختلافها في تبني التيارات والتوجهات هو الذي جعلها لا من دعاة الالتزام ولا من دعاة الفن الخالص المنزّه عن الاغراض. ومن ثم تواخذ نازك الملائكة الشعراء الذين ينساقون الى واحد من التوجهات كنزار قباني وسليمان العيسى كما لم تساير نازك الشعراء التقليديين الذين تصفهم بالضعف السمعي الذي لم يقع فيه شعراء المهجر لأنهم مرنوا سمعهم على ما هو دقيق من لفتات الوزن. ولقد ساهم اختلافها النقدي في جعلها شاعرة تنتقد شعر العمود بنزوع ذهني ليس فيه اغراق عاطفي وهو ما افضى بها لأن تكون ناقدة تجمع الجمال بالاستغوار المعرفي، متجاوزة الحسي الى الذهني حتى تفردت باصالة وتمتعت باماد فكرية نخبوية هي في الأساس نسوية.

وبسبب هذا التبني للاختلاف في توجهاتها النقدية غدت بنيوية لا تجد في دراستها لعلي محمود طه اي اتصال بسيرة حياة الشاعر وإنما هي دراسة نقد وتقييم لشعره وحده؛ وانها إذا ما مست أحداث حياته فانه مساس عرضي جانبي. (الصومعة والشرفة الحمراء، ص14) 

وليس غريبا أن يجد قارئ كتاب( الصومعة والشرفة الحمراء) نازك الملائكة ناقدة تتناول القصيدة بذائقة نخبوية لا تنظر للمضامين بمعزل عن الشكل ولا تسلم بالمناهج المتداولة، شاعرة أن النقد بحاجة الى استنباط مناهج جديدة تلج ميادين المعرفة المختلفة. ولعل هذا هو الذي وصل بها الى منطقة التفكر بالاختلاف. وقد لا نخالف جادة الصواب اذا جزمنا بان النقد العراقي منذ منتصف الخمسينيات الى مطلع الثمانينيات وهي المدة التي ألفت فيها نازك كتابها وطبعته وأعادت طبعه أكثر من مرة قد دخل إلى منطقة التفكر بالاختلاف خروجا عن المتداول النقدي العربي بكل ما فيه من ظواهر ومصطلحات ومفاهيم.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

مقالات ذات صلة

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة:  صفقة مع الخطر
عام

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة: صفقة مع الخطر

ألِكْس كورمي* ترجمة: لطفية الدليمي بينما أكتب الآن هذه الكلمات يرسلُ هاتفي النقّالُ بطريقة لاسلكية بعضاً من أعظم ألحان القرن الثامن عشر (مؤلفها الموسيقار العظيم باخ لو كنت تريد معرفة ذلك!!) إلى مكبّر الصوت...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram