ستار كاووش
إتفقنا نحن رسامي المدينة على تطوير فكرة مهرجان (المرسم المفتوح) لجذب أكبر عدد من الناس الى مراسمنا، فتوصلنا الى فكرتين طريفتين نفذناهما مباشرة،
الأولى هي إستئجار باص أحمر ذي طابقين من الطراز الانجليزي وجعله يدور ويتنقل في شوارع المدينة، بحيث يتوقف عند كل رسام ربع ساعة يهبط منه بعض الزوار ويركب بدلهم آخرون ممن شاهدوا أعمال الرسام، وهكذا أخذ الباص يدور طوال اليوم في المدينة وهو يوزع الزائرين على مراسمنا، تملأه الأحاديث حول الفنانين وأعمالهم ويعطي ركابه لبعضهم نصائح بضرورة التوقف عند هذه الفنان أو ذاك. والفكرة الثانية هي تهيئة (25) بالوناً (بعدد الفنانين المشاركين) وربط كارتات صغيرة بها، كتب عليها أرقام تلفونات الفنانين، وقد أضفنا بجانب كل رقم عبارة (إن وجدت هذا البالون فستحصل على لوحة صغيرة مجاناً. وهذا هو تلفون الرسام) وأطلقنا البالونات صباحاً عند نقطة التجمع التي إتفقنا عليها، والتي كانت عند بوابة متجر (الطاحونة) المتخصص ببيع مواد الرسم. في مساء اليوم ذاته إتصلت بي فتاة من قرية هافلتا القريبة، قائلة بأن أخيها قد عثر على بالون مكتوب معه رقم تلفوني، وهكذا حضرت الى المرسم للحصول على لوحتها الصغيرة.
في اليوم التالي وبينما كنتُ منشغلاً مع بعض الضيوف في المرسم، أحدثهم عن تفاصيل وتقنيات وألوان لوحاتي الجديدة، لاحظتُ إمرأة تنظر من بعيد عِبرَ فتحة الباب، كنت قد لمحتها البارحة حيث كانت مترددة أيضاً، سرتُ بإتجاهها فأشاحت بوجهها وحاولت الذهاب مسرعة، لكني ناديتها بلطف، فتوقفت قائلة بتردد (هل يمكنني الدخول الى المرسم) فأجبتها بأن لا شيء عندي ألطف من ذلك، عندها تشجعت قائلة (أتردد عادة في الاختلاط بالناس، بل أخشى التواصل معهم، لهذا ليس لي علاقات حتى مع الجيران، وتمر عليَّ أيام أغلق فيها باب البيت ولا افتحه مهما حدث، وأظل أنظر للعالم من خلال نافذتي في الطابق السابع، وهذا ما يجعلني وحيدة دائماً) واشارت الى شقتها العالية في الجانب الآخر من الشارع. كان اسمها غريباً، لهذا إبتَسَمَتْ وهي تعرفني على نفسها (إسمي هيني الأخ الجيد) فسألتها عن ما تعنيه بالأخ الجيد؟ فقالت ضاحكة (إسمي هيني، وإسمي العائلي "الأخ الجيد")، واردفت مازحة وهي تضحك (لكني أخت سيئة بكل الأحوال)، فشاركتها الضحك، وكي أسهل عليها الأمور قلت لها بتودد (أنا أعد قهوة مذهلة،أعتقد بأنك ترغبين بفنجان قهوة معي) وهنا انكسر حاجز التردد ودخلنا المرسم.
قالت هيني وهي تنظر الى اللوحات (الآن عرفت إنك رسام) لتكمل حديثها (كنت أراك من داخل بيتي وأنت تظهر من خلال نصف نافذتك، حيث يظهر جانب من رأسك وجزء من يدك وهي تتحرك بإيقاع متكرر لكن غير واضح، وأتساءل مع نفسي، ماذا يفعل هذا الرجل بالضبط؟) فضحكتُ قائلاً (هذا ما أقوم به) وأنا أشير الى لوحاتي التي ملأت المكان. تنقلت هيني بين اللوحات لتقف لحظات منبهرة أمام لوحة دائرية الشكل، وبين برهة وأخرى تعود لذات اللوحة، لتقول لي في النهاية، بأنها ترى نفسها في هذه اللوحة، لتكمل حديثها (ليس لديَّ نقود كثيرة، لكني أحببتُ جداً هذه اللوحة ولا أريد التخلي عنها. هل هناك طريقة لمساعدتي بشرائها؟) فعرضتُ عليها أن تكون اللوحة بنصف الثمن، كذلك يمكنها تسديد هذا النصف على ثلاث دفعات. وهنا تجرأت هيني -وهي المترددة- وقبلتني (على الطريقة الهولندية) ثلاث قبلات على خدي، لتحمل اللوحة وتذهب وهي سعيدة. ما أفرحني حقاً وقتها هو كيف لأمرأة مثلها لا تملك النقود الكافية لمتطلبات حياتها ومع ذلك تقتني عمل فني رأته قريب الى روحها، إضافة الى ذلك كان غموض شخصيتها لا يخفي مرحها وبساطة روحها ولا يحول عن حبها للجمال، وهذا ما جعلها قريبة مني فعلاً، وقد زارتني بعدها بعض المرات المتباعدة، كانت آخرها صحبة شقيقتها التي تشبهها كثيراً في الشكل. وقد تواطأتْ معي يومها ضد أختها وهي توشوش في أذني بمرح ضاحكة (أختي تملك الكثير من النقود. لهذا جلبتها الى مرسمك).
في اليوم الاخير لي في ذلك المرسم، قبل أن أنتقل الى مقاطعة فريسلاند، قلتُ لزوجتي (لنذهب الى هيني ونعطيها هذا الكتاب ونودعها)، فذهبنا اليها، لكن المحاولة باءت بالفشل مع الأسف، لأن هيني قد قررت في ذلك اليوم أن لا تفتح الباب لأحد.