حاوره: عباس الأزرقغزارة الإنتاج التي يتمتع بها الناقد والباحث والمترجم سعيد الغانمي هي خلاصة بحث متواصل ودؤوب يلج الغانمي فيه حد الذوبان. وهو يدرك ويتفاعل مع مبدأ البحث الدقيق عن كل ما هو جديد في المشهد الفكري العالمي المعاصر. فينقب متوخياً في بطون الكتب والإصدارات الغربية والعربية التي ترصد وتنشر الظواهر العلمية والاجتماعية والفكرية والبحثية.
ويعنى كذلك بأشياء من المسكوت عنها في عالم الأسطورة، مما يسعى إلى أن يجد له المنافذ التأويلية والألسنية واختلاف وجهات النظر المادية والتاريخية. ومن خلالها يفتح الغانمي أمام المهتمين والقراء في هذا الشأن من تلك الموسوعة المعرفية فضاءات متعددة وحيوية، نقف حيالها في أوجه شتى بين الرضا والانبهار أو ربما غير ذلك. لكن في كل الأحوال هناك إشباع لرغباتنا في معرفة واستبيان تلك المناهج في روح معاصرة، وما تمتع به الأستاذ الغانمي إنما هو حصيلة ما جاد به من روح تواقة في عالم المعرفة. فلم تثنه المعاناة الناجمة عن رحلته وترحاله المضني. فأصرّ على التواصل. ومنذ تسعينيات القرن الفائت، تاريخ مغادرته العراق، أي ثماني عشرة سنة، توثب الغانمي واستشف أن لا سبيل أمامه إلا التواصل العنيد مع الذات والآخر. وفي خلال هذه الغربة التي امتدت به من الدول العربية حتى مستقره، والله وحده يعلم إن كان الأخير، في غرب استراليا، استطاع الغانمي أن يرفد المكتبة العربية بكم ضخم ونوعي أثمر ما يزيد عن 46 كتاباً بين بحث ونقد وترجمة. وقد لقيت هذه الأعمال والإنجازات أصداء واسعة وترحيباً واحتفالاً بسعيد الغانمي كاتباً ومترجماً، لما تنطوي عليه من أفكار مهمة تصب في صميم الثقافة وجوهرها. وهذا بالضبط ما تحتاجه الثقافة العربية، التي تسعى إلى التواصل مع المنجز العالمي في حركته الدؤوب.وقد أجرينا حواراً متعدد الجوانب مع الغانمي فيما تناوله وكتب عنه. وبهدف أن يكون الحوار مع الغانمي حواراً شاملاً، ارتأيت أن يكون المحور الاول عن البداية، وهو ما أعتقد أنه المدخل الأساس للخوض في الأشياء الأخرى. rn* فلنبدأ من لحظة التكوين والبداية عند سعيد الغانمي- لا أكتمك بأنني لا أحبّ الحديث عن ذاتي، ولم أفكر بذاتي بالمعنى النرجسي مطلقاً. لكني مع ذلك مولع بمراقبة خطواتي، ورصد توجهي، وممارسة نوع من النقد للذات لا يتوقف. ولست أُخفي أنني بلا بدايات. بداياتي لم تبدأ بعد. غير أن هذا لا يمنعني من الحديث عن "هاجس البدايات"، بدلاً من البدايات نفسها. ولعل هذا الهاجس تبلور في فكرة "الصراع". ففي أواخر الستينات وبداية السبعينات، كانت تتصارع الآيديولوجيات الإسلامية والماركسية – بمختلف طبعاتها من الماوية إلى القومية- والوجودية. كانت الثقافة العربية تعمل بلا كلل لكي نكون أصلاء ومعاصرين معاً. تصطرع الآيديولوجيات وتتحارب فوق أجسادنا لتهبنا المعاصرة أو الأصالة. كنا نقرأ ابن خلدون باعتباره ماركسياً، والشيرازي باعتباره داورينياً، ونثق بأن إلحاد سارتر هو نوع من التأليه المضمر الخجول. مع نفسي، كصبي يقرأ بشغف، كنت خلسة أرفع كلمة "صراع" وأضع بدلها كلمة "حوار". أتذكر مرة أنني كنت أقرأ عن "الحلم"، وقد قرأت فرويد وبافلوف وبرجسون. قلت لنفسي: لو اجتمع هؤلاء في مكان واحد، لأطلق كلٌّ منهم النار على الآخر. فهل بإمكاني أن أجمعهم ليجلسوا للحوار. بعد ما يقرب من أربعين سنة على هذه الجلسة التي لم تحدث إلا في خيال صبي مراهق، أشعر بأنني مدين لكلمة "حوار" هذه. والآن اختفت مصطلحات مثل "الجدل" و"الصراع" و"المواجهة"، لكن المبدأ الحواري والنقد التفاعلي وسلالة أخرى من المصطلحات الشبيهة ما زالت تحرك الناس ولم تختف.rn* التكوين لديك خلاصة بحث مع الذات لتجد من خلاله حواراً متواصلاً. أين تكمن المباحث المتعددة وبأي إطار تسير؟ خصوصاً إذا كانت تصب في منطقة الموسوعية؟- هذا سؤال مهم. ولكن ما معنى "التعدد"؟ هل التعدد خطأ أم صواب؟ حتى السبعينات والثمانينات، كان التعدد يوصف بأنه موسوعية. ثم فجأة صار التعدد دليلاً على القصور، ومؤشراً على غياب المنهج. وهنا علينا أن نميز بين الدلالات المتعددة للتعدد نفسه، وبعضها غير موجود في اللغات الأخرى. خذ، مثلاً، نحن نترجم كلمة (Multiculture)، وهو ميدان بحثي جديد لدراسة "التعدد الثقافي" والتعددية الثقافية في المجتمعات المختلفة. وهذا شيء مختلف عن "التعددية" بمعنى "الكثرة" (Plurality). وأعتقد أن علينا التخلي عن ربط التعدد بالموسوعية، وبالتسيب المنهجي معاً. ولكي أبسِّطَ الأشياء، أعطيك مثالاً ملموساً. عندما كنا طلاباً في رافداً أو جدولاً. وقد أهديت كتابي "خزانة الجامعة، كان أساتذتنا يعلموننا أن لا نقول لا أعرف، حتى لو سألك الطالب سؤالاً لا تعرفه، فأجبه عن شيء تعرفه. وعندما درسنا في جامعات أجنبية، فوجئنا أن أكثر العبارات تكراراً لدى الأساتذة هي "لا أعرف". مرة كان يحاضر علينا بروفيسور أسكتلندي كبير حول علاقة اللغة بالثقافة. فوجهت له سؤالاً نظرياً عن علاقة اللغة بالثقافة. أجابني: لا أعرف. عندي أن عبارة (لا أعرف) هنا لا تعني ليست لديَّ فكرة.
الناقد سعيد الغانمي: من يصنع الثقافة فـي العالم العربي هم أبطال الطور الشفوي
نشر في: 10 مايو, 2010: 05:16 م