محمد خضيراحتوت مفكرتي الريفية التي مسكتها خلال الأعوام 1959 ـ 1963 على مقتطف من مقالة للشاعر الفرنسي لويس أراغون، نشرتها مجلة اتحاد الأدباء العراقيين في عددها الثالث عام 1961 . قيدت المفكرة عنان المخيلة الجموح في سنوات الدراسة الثانوية، ثم غذّت الميل الطبيعي للارتماء في بحر الأهوار الوسيع عندما عينت معلماً في مدرسة ابتدائية على أطرافه،
وأخيراً احتوت حقائق العالم الأولى خارج هذا النطاق الطبيعي عندما نقلت مقالة أراغون إليها. اصفرّت أوراق المفكرة وبليت فنقلت مقتطف أراغون إلى سجل آخر، وأظنني سأنقله مراراً وتكراراً حتى يعفّي الزمن على آثار الأشخاص الذين وُهبوا الحقيقة، أو أولئك الذين اكتسبوا عقائدهم عن طريق الشك والحيرة والعمل المضني والتجربة المؤلمة، مثل أراغون. كنت آنذاك أعلّم الحقيقة وأشارك المئات نضالهم وجهدهم وحبهم للكلمة ودلالتها القاطعة في الكتب والوجوه (ومنهم تلاميذي الذين ساعدتهم على تهجي حروف أسمائهم، وآباؤهم الفلاحون الذين استعاضوا عن كتابة الكلمات بقراءة حقيقة الأرض والشمس والماء، وأزعم أنهم جميعاً شبوا عن طوق الحقيقة المضادة التي قيدتهم طويلاً إلى عبودية الجهل والنسيان).أتذكر هذه الحقيقة بينما أنقل مقتطف أراغون إلى هذه الزاوية من الصحيفة، ولسان حالي يردد معه خشيته من ثقل الحقيقة الجاثم على روح الفن وقدسية الحرية: "إني واثق بأن كل إنسان يمتلك قدراً متنوعاً من الحقيقة، هذا القدر الذي لن أبلغه أبداً. إن كل إنسان يمشي للحقيقة بخطاه الخاصة، فإن لاحظت أنا ضعفاً في مسراه فإني متذكر خطاي المتعثرة، أتذكرها تذكراً كافياً يجعلني أعتقد بأني ما زلت قادراً على أن أخطو مثلها". شرح أراغون في مقالته المشار إليها ( ترجمها عبد المطلب صالح) مفهومه الواقعي للفن، الذي استقاه من الروائي الإنجليزي روبرت لويس ستيفنسن وعزاه إلى دخول التفاصيل في الأدب، وكانت التفاصيل تعني في نظر أراغون ملاحظة الحقيقة الواقعية واستعمالها لإنتاج (المعنى العام). لكن التفاصيل التي اعتبرها أراغون معياراً مشتركاً بين مذاهب الفن المختلفة، ستخضع لاحقاً لحقيقة العصر وتبدل الزمن فلا يستطيع الفنان أن يحيد عنها وتستولي على فنه. (نجد في رسوم بروجل الفنتازية المفزعة مشاهد واقعية أملتها رؤيا الفنان لتفاصيل عصره الأخلاقية والسياسية). نستطيع أن نؤرخ لتعاقب المذهبين الكلاسيكي والرومانسي بملاحظة التعارض بين تجريد الفكرة والموضوع (الكلاسيكي) وتقديم التفاصيل على التجريد (الرومانسي). لكن غلبة التفاصيل وطغيانها في المذهبين الطبيعي والواقعي الاشتراكي اللذين ورثا رومانسية بلزاك وهيجو أديا إلى نوع من (عبادة الواقع). انتقد أراغون كلتا النزعتين وشبّه واقعيتهما بميل البرجوازية إلى جمع الصور في ألبوم العائلة وحصرنا داخلها. لكنه لم يعارض حرية انتقال الأفكار والتفاصيل في نوع جديد من الكلاسيكية والرومانسية مناسب لعصرنا. جمعت مفكرتي الريفية قدراً كبيراً من تفاصيل مرحلتها الزمنية، ولا يبدو أن شأنها يقل عن شأن مفكرة رسام طبيعي بدأ برسم وجوه تلاميذه المغمورة بإيحاءات جو مشوب بالتحول والغياب. كانت الرؤوس الضئيلة الحليقة تختفي في دغل القصب، تعلوها غيوم عاصفة سوداء. وكانت وجوه غيرها معصوبة مصلوبة أمام شروق الشمس المرعب. كانت التفاصيل تزين المفكرة بقرابين قصصية مقدمة لآلهة المستنقعات البدائية، مطعّمة بأبوذيات وأغان ومفردات لهجوية مختارة بعناية من الوسط الريفي المعزول عن المدنية والسياسة. وكانت هذه التفاصيل موزعة على خارطة موقع المدرسة في ذنب نهر متفرع من الفرات الكبير. وإذ أرشد أراغون تفاصيل المفكرة إلى خاتمتها، فقد ظلت القصص الطوطمية الأولى التي احتوتها المفكرة من دون نهاية واقعية مناسبة. اتفقت مفكرتي مع مخيلة رومانسية بما حوت من مشاهد ومفردات نمت كالأشنات والأحراش حول مستنقع بدائي: طلوع الشمس الواطئ، طيران البط الخفيض، نمو القصب المتوحش: مقدمات المشهد الواقعي الستيني اللاحق: عنف الشوارع. لو لم يكن من غرض للاحتفاظ بالتفاصيل الأنثربولوجية: عمارة الطين، خشونة الأقدام، أسماء الأشخاص، أدوات الصيد.. غير الالتحام بنصّ أراغون التعليمي، لكان هذا دفاعاً كافياً عن حقيقة المفكرة البالية. جمعت المفكرة مسبحةَ البعر مع قلادة الذهب في سوق الشباب الغرّ. صيد الطيور مع مطاردة الخنازير البرية تعبيراً عن التضحية بلباب النفس. خوار البقر الحالم وتضرع القاتل النادم تقدمة لولادة جديدة. الفجر حين يطلع، الضرع حين يسيل، الريف الأول حين تكسل المدن وتنام على ضيمها. تجربة إيمان مزعزع ببناء سدّ منيع ضد الطوفان السياسي الوشيك. (ضرب أراغون مثلاً على استخدام زولا التفاصيل في رواياته الطبيعية لمقاومة روح الإمبراطورية الثانية). ثم حلّ مقتطف أراغون مشهداً مشجعاً نقلَ خطوتي المتعثرة إلى عصر المفكرة الواقعية.
خارج العاصمة: المفكرة الريفية
نشر في: 10 مايو, 2010: 05:18 م