TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > المتنبي ألوفاً

المتنبي ألوفاً

نشر في: 11 نوفمبر, 2012: 08:00 م

قد لا يكذب الأديب حين يصوِّر نفسه خلافا لما هو عليه في الواقع. ففي لحظة ما قد يكتنفه شعور أصيل بأنه شخص آخر لا يشبه شخصه المعتاد حتى لديه هو ذاته. ثم يجسد شخصه المختلف هذا في نص من دون أن يكون قد تصنع أو بالغ. كل ما في الأمر أن الموهبة كشفت في صاحبها، ولو للحظة، شخصا آخر. كان مطمورا تحت طبقة من طبقات الوعي، أو اللاوعي، فنبشته الموهبة واخرجته مبتدعا في نص.
يقول المتنبي:
خُلقتُ ألوفا لو رجعت الى الصبا
لفارقت شيبي موجع القلب باكيا
هذا ليس المتنبي كما عهد نفسه وكما عهدناه. ليس ابا الطيب الذي لم يألف شخصا ولا شيئا. الشاكي الساخط الممرور الغاضب:
بم التعلل لا أهل ولا وطن    ولا نديم ولا كأس ولا سكن
وكل شيء في هذه الشكوى صحيح. صحيح ليس لأنه الواقع. بل لأنه لم يكن ليألف هذا الواقع حتى اذا تيسر له وتوفر عنده، إما خوفا أو بخلا أو توحشا. فقد أصبح مليونيرا بمقياس هذه الأيام على يد ممدوحه الأمير سيف الدولة، وصارت لديه أسرة، وبيت يعج بالخدم من العبيد. لكن طبعه أو اضطرابه النفسي منعه من الاستمتاع بتلك النعمة. لقد تنعم 9 سنوات في ظل الأمير مع وقف التنفيذ.
رغم ذلك كله فقد كان ألوفا. هكذا رأى نفسه في لحظة. هكذا كشفت موهبته عن شخصه الخبيء في وقدة إلهام ذاتي. فليس في ذلك البيت تكلف ولا صنعة، كما يظهر عنده في مئات الأبيات الأخرى. هنا كان صادقا، كان ألوفا. وعلى أي حال هناك دائما في الشخص الواحد عدة اشخاص. من منا شخص واحد؟
وعلى نفس هذه الطريقة من الألفة كان عاشقا، ومن أول نظرة، حين قال:
لهوى النفوس سريرةٌ لا تُعلمُ  عَرَضاً نظرتُ وخلتُ أني أسلم
ولكن المتنبي لم يعرف الحب الطبيعي كما لم يجرب الألفة. حبه الوحيد كان سيف الدولة. والقصيدة الشهيرة التي غنيت له في عصرنا، وهي من أروع شعره، جاءت تعبيرا عن مرارته من اضطراره الى خسارة حظوة راعيه:
يا أعدل الناس الا في معاملتي    فيك الخصام وأنت الخصم والحكم
 أعيذُها نظراتٍ منك صادقة      أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم
 يا من يعز علينا أن نفارقهم        وجداننا كُلَّ شيء بعدكم عَدَمُ
وقد تكون هذه القصيدة علامة فارقة في تاريخ الشعر كله. فلا أظن أنه توجد قصيدة غرام محتدمة وملتهبة في سلطان مثلها. نعم ان ثلث شعرنا التقليدي مديح، ومعظمه للسلطة. لكن للرزق وليس للغرام. والمعتاد والجاري عبر العصور هو أن السلطة تُهاب وتُخاف ويحذر منها أو تؤيد أو تحب حبا عاديا أو تعارض أو تعادى. لكن أن تعشق فهذا هو "الاستثناء العربي" بعينه.
في دراسته عن ابي الطيب يفصِّل المستشرق الفرنسي ريجيس بلاشير هذا الغرام قائلا:"ولم يكن الاعجاب هو الشعور الوحيد الذي يكنه ابو الطيب نحو حاميه، فقد نازعته، في وقت مبكر، بل لعله فورا، عاطفة أخرى، بل شيء ندر أن عاناه، بمثل هذا العمق على الأقل، الا وهو تعلق حقيقي، بل أكثر من ذلك، مودة احترامية قائمة على اعتراف بالجميل وجاذبية لا شعورية. ولا  شيء يفسد هذه العاطفة، حتى ولا خصام متعذر إصلاحه".
أي باختصار حب أعمى. وليس من طبيعة عاشق السلطان أن يكون ألوفا. لكن المتنبي بدا لنفسه  كذلك في لحظة ما. لحظة طيبة فريدة. وكان صادقا.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. أ.د.عبدالكاظم ماجود

    استاذنا الفاضل :كم تدهشني وتفرحني في اّن قدرتك على خلق الجمال .انت بعباراتك الرقيقة الناعمة مثل زارع الورد الذي يتقن مهنته بدرجة بروفيسور .أنا دائما اشبه نفسي بالمتنبي , رافضا , معترضا , مشاكسا , خارجا على المألوف وكارها للسائد . لم يحصل في حياتي ولا مر

ملحق معرض اربيل للكتاب

الأكثر قراءة

البْصَرة عراقيَّة.. لا عَلويَّة ولا عثمانيَّة

العمود الثامن: الجلوس على أنفاس المواطن

روما على مفترق طرق – هل تكتب الجولة الثانية نهاية أزمة أم بداية تصعيد؟

قناطر: المُوحِشُ المُسْتفرَد بين السعفِ والقبّرات

(50) عاماً على الحرب الأهلية اللبنانية حياةً بين قذيفتين

العمود الثامن: نور زهير ياباني !!

 علي حسين منذ سنوات وأنا أقرأ كلّ ما يقع بين يدي من كتب عن البلاد العجيبة اليابان، وأدهشني الأدب الياباني من كواباتا مروراً بكنزابورو أوي وميشيما، وانتهاءً بأشيغورا وموراكامي . شعب يكتب بحروف...
علي حسين

قناديل: مائدة طعامك التي تقرأ مستقبل العالم

 لطفية الدليمي علّمتْنا تجاربُ كثيرة في الحياة أنّ الأمثلة الشاخصة أكثر تأثيراً في مفاعيلها من المقولات المجرّدة. كلّما نظرتُ في مصدر الطعام الموضوع على مائدتي غمرَني إحساسٌ بأنّ هذا الطعام يمكنُ أن يكون...
لطفية الدليمي

قناطر: هل الثقافة مكملات غذائية ؟

طالب عبد العزيز في العودة الى قضية الجوائز الأدبية بالعراق والوطن العربي نجد أنّها لم تتبلور في قيمتها على المستوى الشعبي، فلا يُشار لأصحابها بالأهمية، ولا نجد لها دوراً في صنع الثقافة، على خلاف...
طالب عبد العزيز

العدالة الدولية تحت المطرقة

حسن الجنابي (الجزء- 3) كان الأمريكان والدول الغربية في غاية الرضا عن الدور الذي كانت تؤديه محكمة الجنايات الدولية (ICC). فقد نشطت المحكمة في ملاحقة بعض الجرائم الدولية، ومنها جرائم بعض القادة الصرب في...
حسن الجنابي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram