لطفية الدليمي
لاشيء مختلف لدي في زمن الكورونا سوى الهدوء الذي لالون له في الشارع ، هدوء لاتشوبه كركرات طفل وبكاء آخر؛ فجوار البيت دار حضانة تبث موجات إيجابية من عشرات الصغار الرائعين وهم يخطون أولى خطواتهم على أرض البشر .
لاشيء سوى هدوء يمازجه شعور بعدالة كانت مستحيلة لآلاف الأعوام من عمر البشرية ، وهاهي - في الزمن الكوروني - تطوينا جميعاً تحت جناحيها الوارفين ، وأرانا جميعاً نجابه تحدياً واحداً ونقاسي القلق ذاته ؛ فأية عدالة رحبة هذه التي تتسع لجميع مخاوف سكان الكوكب ؟
تكدّرت الحياة على نحوغير مسبوق وطال الخوف من الموت الجميع وكأن الموت اكتشاف مفاجئ لم يألفوه ولاسمعوا به ، شعر البعض بالامتنان للعطالة المباغتة التي لم يحلموا بها : الضجرون المولوِلون يواجهون محنة الحظر المنزلي بالتذمر والتشكي ، وينسون أنهم آحاد من سبعة مليارات إنسان مهدد بالوباء ، البعض صاروا يحومون كالحمائم والعصافير في أقفاصهم البيتية ويتصادمون بالإرادات والجدران والأجساد طوال الوقت . معظم البشر في بلداننا هربوا إلى النوم في انتظارماسيجيئ ، إستجدت فعاليات إحتفالية لدى البعض وفاحت روائح الكيك والمعجنات والشواء من البيوت ؛ فالناس في مآدب عائلية متصلة تتعالى خلالها أصوات شجارات حول المكانة وقيادة الأسرة في أجواء العزل الصحي ، تنشأ المشاكسات وتتفاقم لتصبح معارك مصيرية ولاشيء مفاجئ ، القلة من البشر إحتفى بكتب لم يتسن لهم قراءتها من قبل ، بعضهم عمد إلى تعلّم الانكليزية أو الفرنسية عبر النت والتسجيلات .
سياق حياتي هو ذاته لم يتغير : عزلة ممتعة مع الكتب والموسيقى والأفلام وحوارات ونقاشات عبر الحدود مع أبناء وأصدقاء ، الحظر لم يفاجئني ، أواصل رعايتي للزهور وشجيرة الآس والياسمين والأزاليا ، لاشيء جديد سوى صفارة الإنذار تطلق في السادسة مساء تحت غيوم مذهبة ونسائم محملة بأريج الزهور، لاشيء تغيّر باستثناء افتقادي للأصدقاء الذين كنت احتفل بهم في أماسي نهاية الأسبوع ، لاشيء فحياتي تزدهر بإنجاز كتب جديدة ومواصلة العمل على كتابي ( كراساتي الباريسية ) وقراءاتي .
لاشيء تغير. ثمة أحلامٌ ومشاريع وأفكار تتزاحم ، ثمة قلق يدب خفياً في الروح أمحوه بالإنصات للموسيقى أو بإطلالة على مشهد المدينة البانورامي من شرفتي وشهوة الحياة تتدفق في عروقي وكأنني سأعيش أبداً ، لاشيء من الكدرأو اليأس ؛ فمصيرالإنسانية اليوم مشتبك بتهديد واحد ونجاة مرتجاة ، لاشيء سوى نبوءات حلوة تنهمر كنجوم سائلة فوق القلب ، نبوءات عن عالم يستعيد عافيته وبشر يتفكرون في تغيير أنماط العيش والعادات المستبدة ، نبوءات أشبه بالرؤى تراود الروح عن عالم ينضو عنه معضلات الأمس واليوم ويرنو للتجدد . أتشبث بالمباهج الصغيرة في عزلتي ولاأفرط بالزمن ، أحلّ مشكلة وأتخطى أخرى فأفوز بسعادة وامضة . أعيش اللحظة وأصنع مايعدني بوعد مبهج ، أنتشي بلحظة السعادة وأعلم أنها لاتدوم غير ومضة برق ، ومن مجموع ومضات يتشكل نور يضيئ المدى أمامي ويمهّد لانعتاق الروح من الأثقال الأرضية ، وبهذا وحده بوسعنا الإفلات من تعاسة تداهمنا فنقاومها بأفعال ، نبتكر ونعطي فتفعم قلوبنا إنبهارات الحب وعطايا البهجة ، نتعلم مهارات جديدة كل يوم فنعوم في لجج الفرح : فرح التعلم وفرح الإنجاز والحلم.
شخصياً أنسى الكورونا وأتجاهل هلع الأصدقاء ، أمارس التأمل فتومض الآمال والمشاريع والنبوءات في نهارات الحظر ولياليه الساكنة .
لم يتغير شيء لدي مع الحظر الكوروني ؛ فأنا اتمسك بعزلتي ذاتها منذ سنوات وأمضي في الزمن طليقة أراقب النفس وأتقبل ضعفاً إنتابها لبرهة خوف وأحزن على عون توانيتُ في إسدائه ووعد عجزت عن الايفاء به .