TOP

جريدة المدى > عام > المدى تفتح ملف الدراما العراقية..الدراما المحلية مسيرة متعثرة .. وأمل ضعيف

المدى تفتح ملف الدراما العراقية..الدراما المحلية مسيرة متعثرة .. وأمل ضعيف

نشر في: 3 مايو, 2020: 08:31 م

علاء المفرجي

في كل دورة رمضانية، تُثار مشكلة الدراما المحلية من قبل المتخصصين من الفنانين والعاملين بحقولها المختلفة،

ولكن هذه المرّة وفرت وسائل التواصل الاجتماعي فرصة للآخرين وأعني بهم المشاهدين بشكل عام، ليطرحوا آرائهم حول (أزمة) الدراما، وهي آراء تتفاوت في قيمتها نقدية، لكنها تلتقي بفكرة تأخر هذا الفن عندنا، وتستطيع أن تلمس تشخيصاً دقيقاً بل ودراية من قبل البعض من هذه الآراء لمكامن الخلل، خاصة من عموم مثقفينا.

فعلى الرغم من تواصل الإنتاج الدرامي المحلي، إلا أنه لم يستطع أن يحقق حضوراً متميزاً، إلا إذا استثنينا بعض الأعمال والتي لا تتناسب على أية حال كنوع مع كم الإنتاج، وإذا ما استسلمنا للمنطق السائد بأن التراكم الكمي لابد أن يخلق نوعاً متميزاً بالضرورة (على قلته) نرى أن ذلك لم يتحقق في هذا المجال لأسباب عديدة لعل في مقدمتها بل وأهمها هو (السوق) الذي وفرته كثرة الفضائيات العربية وهو ما لا يصح أن يكون قياساً لنجاح هذا العمل أو ذلك، فإن كان منطق الجودة وجماهيرية العمل هي التي تتحكم بـ(تسويق) الأعمال الدرامية وتجعل منه بضاعة مرغوبة في قنوات البث التلفزيوني العربي، فإن سيادة الفضائيات وكثرتها ومن ثم اتساع مساحة البث أقصت مثل هذه الاشتراطات في مقابل قبول الكثير من الأعمال (على رداءة بعضها) لملء ساعات البث التلفزيوني التي تبدو أحياناً مثل (محرقة) لكثير من المواد، وهو الأمر الذي يجب أن لا يغيب عن بال القائمين على هذه الأعمال كي لا يقعوا في فخ أن أعمالهم تتهافت عليها القنوات الفضائية وإن البعض منها يسوّق قبل الانتهاء من تصويره. 

وقد لا نجانب الحقيقة عندما نقول أن مثل هذا الوهم هو أحد الأسباب المهمة في تأخر الناتج الدرامي المحلي، إضافة الى الحضور الواضح للدراما المصرية، بل وسيادتها بتراكم خبرتها وتاريخها، بل وحتى في انفرادها في المشهد الدرامي العربي فترة ليست بالقليلة.. ولنا في الدراما السورية نموذجاً لتخطي مثل هذه العقبة فقد استطاعت الدراما السوريّة أن تحقق وجوداً نوعياً (تحديداً في العقد الأخير)، بحيث أصبح المسلسل السوري حاضراً عند المشاهد العربي بموازاة المسلسل المصري صاحب الحظوة الكبرى في الحضور، وهناك جهود كثيرة تضافرت لكي تتحول الدراما السورية الى ما هي عليه، إضافة الى أن هذه القفزة صاحبتها جرأة أيضاً في طرح القضايا الحساسة والمهمة، ولسنا هنا في مجال تفصيل الأسباب التي تقف وراء هذا الصعود السريع للدراما السوريّة ونجاحها، إلا أن للدراما المحلية الكثير من الأسباب لتتخطى بها محليتها ولتؤكد حضوراً نوعياً عند المشاهد العربي ليكون طريقها الى القنوات الفضائية كمادة مهمة تضعها هذه الفضائيات في سياق السبق الإعلامي عند الاستحواذ عليها.

وإذا ما علمنا أن قناة mbc عراق وفرت فرصة للدراما العراقية وصنّاعها في أن تكون منفذاً لها للدخول الى تسويق المنتج الدرامي العراقي، وإنتشاره، وجعله مادة يُقبل عليها المشاهد العربي، إلا أن هذا المنتوج بقي على حاله، والخطأ هنا يقع على صنّاعه، وليس على عاتق هذه الفضائية، فهي – أي الفضائية- لن تنتشل الدراما المحلية من ترديها، وإن أسهمت في إنتاج هذا العمل أو ذاك، فالأمر يتعلق باختيارات صانع العمل، ولانريد أن نقول إنه ليس وحده بل الخلل واضح في كل مفاصل العمل.

إن الدراما تعد اليوم أكثر من أي وقت مضى محوراً رئيساً في بنية البرمجة التلفزيونية، فهي في صُلب التنافس القائم بين الفضائيات العربية، وغالباً ما اشتد ويشتد التهافت على إمتلاك حقوق البث الأول لمسلسلات عربية بعينها، سعياً الى كسب المشاهدين لبرامج القنوات الفضائية؛ فعلى سبيل المثال مسلسل عربي ناجح تعرضه إحدى القنوات مقابل أن تتكفل بثلثي تكلفته.

لم يكن العراق بمنأى عن هذا التطور، الذي يطبع المشهد التلفزيوني العربي، وإنْ تأخر لأكثر من عقد بسبب سياسة النظام السابق، فالدراما التلفزيونية العربية شهدت في العقدين الأخيرين نمواً ملحوظاً كماً، لذلك صار بالإمكان الحديث عن بوادر نهضة تلفزيونية متأثرة بما شهدته التلفزيونات العربية في عصر السماوات المفتوحة والتي يمكن حصر تجلياتها: في تطور طاقة الانتاج الدرامي في مصر البلد العريق في هذا المجال، بل المصدر الأساس للتلفزيونات العربية، وكذلك بروز أقطاب إنتاجية واعدة في مقدمتها في بلدان عربية مثل سوريا؛ وتنامي نشاط شركات الانتاج الخاصة في الوطن العربي، مع قلة عددها أو انعدامها في العراق، بشكل لافت، ودخولها في شراكة مع المؤسسات التلفزيونية الحكومية مما أسهم في ارتفاع حجم الانتاج وتحسن جودته... ويضاف الى ذلك، ظهور أنماط جديدة من الدراما وهوأمر بالغ الأهمية، وهو ماصطلح عليه الفنتازيا التاريخية، خصوصاً التي حملت توقيع المخرج نجدت أنزور، والتي سيكون لنا الإشارة لها في مقالنا هذا.

هل التمويل هو المشكلة؟

نعود الى مشكلة الدراما المحلية، فالكثير من المهتمين بهذه الدراما وأزمتها - إن صح التعبير- يجدون أن السبب الأساس لهذه المشكلة يتعلق بانعدام التمويل، وهي المشكلة التي تعاني منها كل الفنون البصرية بما فيها التشكيل، على اعتبار أن التمويل يذلّل الكثير من صِعاب صنع عمل درامي ويقف على حل كل المشاكل اللوجستية التي يتطلبها العمل الدرامي.. ولكن هنا يبرز سؤال: هل أن التمويل المادي كفيل بانتاج مادة درامية متكاملة؟ وهل سيرفع كفاءة كل المساهمين بالعمل الدرامي من إخراج وتمثيل وديكور وقضايا فنية؟. أقول: يخطئ من يظن ذلك لأسباب سنقف عليها في ثنايا هذا المقال.

فالمبالغ المليونية التي رصدتها بعض المؤسسات الفنية وغير الفنية لم تكن بنوايا طيبة أو لم تنطلق من الحرص (الخالص) على تطوير الدراما العراقية ، بل من حسابات اقتصادية من صُلب نشاطها، لايغفلها عقل لبيب.. فالخطأ الاول أنها اختارت لجاناً للإشراف عن صرف هذه الأموال بمكانها الصحيح، وكان لعمري ذلك جوهر خطئها، فكان اختيار أعضاء اللجنة جلُهم من الممثلين والمخرجين الذي يعملون بالدراما، وحتى يكون وقع هذا الخطأ أقل ضرراً اشترطت الجهة الممولة عليهم عدم المشاركة في هذه الأعمال بأي شكل كان، فيما مشاركتهم كإشراف على العمل؛ وهنا وقعت بالخطأ الثاني في أن جعلت أعضاء اللجان هؤلاء، وفيهم عدد من الممثلين والمخرجين الجيدين، هم الذين بيدهم تخطي الدراما مأزقها دون الآخرين.

القضية الثانية في التمويل، وهو تمويل الدولة من خلال تولي المؤسسات الفنية المعنية بهذا الأمر، وقبل أن أتحدّث عن هذا الموضوع، أشير الى تجربة شخصية حدثت إلى العبد الفقير تتعلق باختياري لعضوية لجنة شكّلها قسم الدراما في شبكة الإعلام العراقية هدفها البت بصرف مبلغ مرصود لقطاع الدراما للنهوض بواقعه، والتقت اللجنة وكانت بغالب أعضائها من أكاديميين ومؤلفين واختصاصيين آخرين، وكان الحديث متشعباً، بين أعضاء اللجنة لكنه يخلص الى مناقشة قضية بعينها هو كيف السبيل للنهوض بواقع الدراما العراقية؟. وكان أن عرفنا أن الدولة خصصت مبلغاً كبيراً لذلك.. وانتهى الاجتماع على أمل اللقاء قريباً.. ولم نلتقِ حتى كتابة هذه السطور!!، ولم نسمع بمصير اللجنة أو المبلغ الذي تم تخصيصه!!.

المشكلة هنا إن العاملين بالدراما، ما أنفكوا ينتظرون أن يأتيهم الفرج من الدولة، وكأنهم مازالوا يعيشون قبل خمسة عقود، وبانتظار فرج لم يأتِ، فالدولة ممكن أن تكون أحد المساهمين وليست المساهم المطلق، لذا من الخطأ تحميل كل مشاكل تمويل الدراما العراقية على الدولة. فمنافذ التمويل مفتوحة لكن المشكلة تبقى في ثقافة الممول وليس في بسط يده. لكن ذلك لن يتحقق إلا بأن تلمس هذه المنافذ نشاطاً من أهل الدراما، كأن يحدث تغييراً شاملاً في هذه الصنعة يبدأ من اختيار النصوص مروراً بالممثلين الذين يجب أن يتحرروا من (لعنة) الإداء المسرحي الذي مازال يحاصر أداءهم، والمخرجين الذين آن الأوان لأن يتخلوا عن أساليبهم النمطية الى أجواء الابتكار، وهكذا باقي الفنانين والحرفيين في عالم الدراما.

الدراما المطلوبة

من أولى المشاكل التي تواجهها الدراما المحلية بكافة أنواعها، وهي المشكلة نفسها التي تواجه الدراما العربية ولكن بنسب متفاوتة، هي النص الدرامي الذي يشكّل كما نرى حجر الزاوية في تطوير الدراما المحلية، بوصفه واحداً من أهم الأدوات ذات التأثير على قطاع واسع من المشاهدين.

فالدراما المحلية ارتهنت منذ بداياتها شأنها شأن كل أجناس الإبداع بسلطة الرقيب التي لاتسمح بحرية حقيقية في التعبير التي هي أولى ملامح التفوق في الدراما، والتي تضفي سمة الشجاعة والأمانة في طرح قضايا وهموم الإنسان العراقي.

فهذه السلطة أعني سلطة الرقيب تكتسي في كل مرحلة تاريخية رداءها المناسب لهذه المرحلة، فإذا كان المحرّم في فترة النظام السابق سياسياً بمعنى المساس بالنهج السياسي القائم في كل تفرعاته، فأنه في الوقت الحاضر أصبح دينياً واجتماعياً وهو التابو الذي من شأن خرقه أن يقودنا الى تصفية مشرعة من قبل رجال الدين. وهو الأمر الذي يجعل النص الدرامي محكوماً بهذه الإرادة.. فما زالت الكثير من الأعمال الدرامية تطرح ما لاوجود له، أو تعزف على نغمات قديمة لم يعد لها وجود ، وتطرح قضايا تجاوزتها الحوادث والخطوب التي نعيشها الآن ، وعلى ذلك فحرية التعبير وقوة تأثيره لاتنفصل عن مصداقية الطرح وعلاقته بالواقع الحي المعاش وتحديات المستقبل في ملمحها الحقيقي الذي يطرحه عالم جديد لن يرحم من يفشل في فهم مفرداته وفك طلاسمه.

ولعل تلك الضجة التي حدثت بالأمس دليل آخر على عسف الرقيب وتسلطه، فمن أين يأتي للدراما التطور المطلوب، ونحن إزاء تحالف عشائري كبير يهدد بالويل والثبور مخرج وكاتب عمل على مساسهم بقيم عشائرية قبل سبعين عاماً، ومتى سنضع الدراما في خارطة الدراما العربية ونائب في البرلمان يهدد عملاً آخر باللجوء الى القضاء ومصادرة حقهم في إبداء الرأي والتعبير عن رؤيتهم.

فإن وجد لنا نص يصلح أن يكون دراما تلفزيونية بعد أن نتخطى ملاحقات العشيرة وتهديدات السياسي، سنصدم بالعقبة الأخرى، وهي كتابة السيناريو فمن المُسلم به أن السيناريو فن معقد لايمكن أن يتعاطاه أو يحذقه إلا أصحاب الموهبة، ممن لهم دراية بأصول الكتابة الدرامية وفنيّاتها، إضافة الى تميزهم بسعة الخيال ومتانة الثقافة؛ فالمتابع للأعمال الدرامية العراقية يلاحظ بدون عناء الهنّات والعلّل في السيناريو، تنم عن نقص في الحرفية وعدم إلمام كافي بالمبادئ الاساسية للكتابة الدرامية.

ومن هنا أقول وكلي أسف، إنه لم يخلق عندنا بعد كاتب دراما حقيقي، يلم بكل تفاصيل العملية الدرامية واعتقد في رأيي المتواضع أن ذلك من أهم معوقات تطور الدراما. وكي لا نغمط الحقوق، هناك القليل من الأعمال التي لفتت إليها الانظار، أقول الأعمال، وليس كتّابها، كي لا أناقض ما قلته سلفاً. لذا كان من الطبيعي أن يلجأ (كتّابنا) الى الاقتباسات (كدت أقول السرقات) من أعمال درامية عربية أو أجنبية، وتسوق للمشاهد العراقي، وكأن الأفكار والموضوعات تلاشت، وأتساءل هل فكر كاتب أن يتناول موضوعاً عن الفساد، أو موضوعا على عوائل شهداء الجيش والحشد الذين تناستّهم السلطة، أو موضوعا عن التجسس...وكأن واقعنا يخلو من الأفكار والموضوعات،فالأفكار كثيرة ولاسبيل لتعدادها.. يكفي أن تفكر في الكتابة حتى تقفز الأفكار أمامك.. فعلى الطريقة (التشيخوفية) تنبثق هذه الأفكار. الأمر لايحتاج سوى الى موهبة المعالجة.

يُكتب الكثير أن الدراما العراقية بدأت قوية وتنبىء بمستقبل واعد، ودليلهم على ذلك هو المسلسل الكوميدي (تحت موس الحلاق) الذي انتج نهاية الستينيات؛ ونحن نرى إن هذا الدليل لايمتلك حجته القوية، ف (تحت موس الحلاق) ورغم انه حظي ومازال بمتابعة كبيرة من المشاهدين، إلا أن ذلك لايعني أنه دراما متكاملة .

فقد كان وراء نجاح هذا العمل الكثير من العوامل لعل أهمها الظرف الذي انتج فيه، فبإستثناء هذا العمل لم يكن هناك دراما تلفزيونية بالمعنى المتعارف عليه، وكان من الطبيعي أن يستقطب اهتمام المشاهدين، فضلاً عن حشد نجوم الكوميديا الرواد الذين شاركوا فيه، خاصة أن هؤلاء الممثلين قدموا أجمل ما عندهم من فنون الاداء. لذلك يمكن لنا أن نعد هذا العمل ذكرى جميلة، أو أثر فولكلوري جميل، لكن أن نعدها مثالاً للدراما الجيدة فذلك هو الخطأ بعينه.

تجارب درامية

فالدراما المصرية وجدت ازدهارها في بداية السبعينيات من القرن المنصرم باسماء كتّاب وسيناريست عملوا للتلفزيون حصراً أمثال أسامة أنور عكاشة الذي ترتبط باسمه صفوة الأعمال الدرامية المصرية، وفيما بعد وحيد حامد، مثلما شهدت الدراما السوريّة كتاب أمثال رياض نعسان، وهاني السعدي، وآخرين انطلاقتها خلال العقدين الأخيرين.

لم يكن الإخراج في الأعمال الدرامية بأفضل حال من الكتابة الدرامية، فمازال مخرجونا هم أنفسهم منذ بداية التسعينيات بالأسلوب نفسه، والمونولوجات إياها وكذلك في التخبط في اختيار الممثل المناسب للدور. فالمخرج التلفزيوني أهم حلقة في دورة إنتاج فهو المتمكن من تقنيات الإخراج الشامل وهو المثقف الكامل في تمكنه من إدراك مضامين السيناريو وإعطائها أبعادها وإثرائها من زاده وهو المتحكم في أدوات عمله التقنية والمسيطر فنياً على كل كبيرة وصغيرة من خصوصيات العمل الفني الإبداعي الذي ينجزه.

فمخرجونا لم يراكموا خبرتهم ويستثمرونها بالشكل الأفضل، ولم يستفيدوا من التجارب العربية التي سبقتنا في هذا المجال.

وأبسط مثال على الدور المهم للمخرج ، هو مسلسل (الذئب وعيون المدينة) بجزأيه ، وهو المسلسل الأهم على الاطلاق في الدراما العراقية، فقد استطاع المخرج المصري إبراهيم عبد الجليل أن يعيد اكتشاف كل الممثلين الذين عملوا معه، لدرجة ظهروا في العمل وكأن المشاهد العراقي يراهم للمرّة الأولى، فقد استطاع عبد الجليل أن يستبطن دواخلهم ويعتني بأبرز ما تتجلى به موهبتهم، فتجاوزوا أنفسهم في هذا العمل. وهو الأمر الذي لم يستطع أن يفعله أي مخرج عراقي آخر. 

ولنأخذ هنا مصر التي أرست نموذجاً إنتاجياً وثقافياً، فالدراما المصرية تميزت بأهميتها كمدرسة رائدة ، مستفيدة من السينما المصرية التي مهّدت لها الطريق للإنتاج التلفزيوني الذي دعم مكانته وهيمنته لسنوات طويلة، وسلكت طريق التطور الطبيعي لتصل الى ما وصلت إليه، فمن نموذج إنتاجي طغت عليه أهمية السيناريو والحوار على الإخراج، معتمدة على نجومية الممثل الذي عوض بادائه وحضوره قوة الصورة التي أفرغها المنتجون من معناها، درجة أصبح فيها المخرج مجرد أداة لتحريك الممثلين. ولكن عندما أسهم مخرجو الدراما بفرض حضورهم، فرض هؤلاء واقعاً جديداً على الدراما المصرية، فبرزت أعمال مهمة مازالت راسخة لدى المشاهد مثل (ليالي الحلمية)، وأرابيسك.. أعمال تميّزت بإنتاجها المتكامل وبمخرجين بدأوا يفرضون حضورهم الفني، حتى صار المشاهد ينسب هذا العمل لهذا المخرج أو ذاك من خلال أسلوبه في الإخراج، فبرز إسماعيل عبد الحافظ، ومحمد فاضل، ويحيى العلمي.

فيما اعتمدت الدراما السوريّة ، التي شهدت انطلاقة سريعة ومتميزة، على مخرجين أكفاء كانوا وراء النهضة الإنتاجية الساطعة؛ حيث تسلحوا برؤية إخراجية جديدة اعتمدت جمالية الصورة ومهارة إداء الممثل، وحركة الكاميرا، فكانت مسلسلات

(العبابيد) و (الجوارح) و(الكواسر) هي ثمرة هذه الانطلاقة، والتي وقف وراءها مخرجون أمثال نجدت انزور، وبسام الملا، وباسل الخطيب، وهيثم حقي، وغيرهم.

أين نحن من الدراما التاريخية

لعل النصوص التاريخية وخاصة تلك التي تتناول التاريخ المعاصر هي الأكثر اهتماماً من قبل الرقيب وأكثر عرضة للرفض.. فأين الدراما المحلية من ذلك؟ وهل استطاعت أن تخوض هذه التجربة؟

وقد تناولت الدراما العراقية عدداً من الموضوعات التاريخية في أعمال مثل (الباشا)، و(وسفير الأغنية) و (النخلة والجيران) . إلا أنها لم ترتقِ الى المستوى التاريخي للحدث، بين الاعتبار لرغبة الرقيب، أو لقصور في المعالجة التاريخية.

ولاشك أن الدراما التاريخية تستهوي قطاعاً واسعاً من المشاهدين فالأعمال التي تقارب موضوعاً تاريخياً تحاول، عادة، اكتساب مصداقية التاريخ ودقته.. وهو الأمر الذي يجعلها في هدف الرقيب خاصة في هذه الفترة التي يمر بها العراق، ولكن تستطيع الدراما أن تتحايل على هذا الرقيب من دون أن تتأثرمصداقية العمل الدرامي. لكن هل يمكن أن تكون الدراما حيادية وموضوعية بالتمام والكمال؟، فاستخدام التاريخ في الدراما يرتكز على الإقناع الفني وليس الحقيقة المطلقة وهو ما يحدد نجاح أو إخفاق الدراما التاريخية فالتاريخ يبقى حقاً مشروعاً للمبدع يتعامل معه بمرونة كيفما يشاء، والفن هنا يقدم قراءة وتفسيراً للتاريخ يفيد العصر، ولايسعى لتقديم وثيقة، وقد يوافق المشاهد الكاتب والمخرج، أو يرفض قراءتهم للتاريخ على ضوء مواقفه الشخصية، وعلى ضوء احتياجات العصر، فما يحاسب عليه الكاتب والمخرج، ليس المصداقية التاريخية.

الدراما العراقية لم تقارب الأحداث التاريخية الكبيرة والمفصلية في تاريخ العراق وفق هذا المنظور، ولو أن التاريخ بالضرورة صالح للإنتاج. وإن للدراما الناجحة شروطها الموضوعية، وما التاريخ عندئذ سوى صلصال يصوغ منه النحّات ما يشاء.

ونموذج ما جربناه في معالجة التاريخ هو فيلم سينمائي، فمازلنا منذ أكثر من أربعين عاماً نردد أغنية (المسألة الكبرى) التي مازل البعض -وللأسف من الدراميين- يحاول أن يثأر منها مستغلاً ميزانية كبيرة في مؤسسة ثقافية وإنْ كانت الميزانية في علم الغيب أو عند من ينتظرون فرصة تقاسمها.

أخيراً فأن تقييم مستقبل الدراما العراقية، رغم الأعمال القليلة التي تحسب لها، كمن سيكون رجماً بالغيب، هناك مراكز اشعاع ستزداد بروزاً، وهناك مراكز أخرى ستذوي وتتراجع، ولكن تبقى هناك إرادة للتغيير لتطوير هذه الدراما، وتفاعل تجاربها المختلفة وأساليبها المتباينة ، ليس لهيمنة هذا على ذاك على طريقة الحروب، بين كاتب وآخر، أو بين مخرج وآخر، بل على خط التنافس الشريف، من أجل دراما عراقية تحاكي واقعنا الملتبس.

وهذه دعوة لزملائي النقاد وأصدقائي الفنانين والمعنيين بفن الدراما التلفزيونية، والمشاهدين بمختلف اختصاصاتهم ومستوياتهم، الى المساهمة في الكتابة حول هذا الموضوع المهم. 

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

مقالات ذات صلة

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة:  صفقة مع الخطر
عام

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة: صفقة مع الخطر

ألِكْس كورمي* ترجمة: لطفية الدليمي بينما أكتب الآن هذه الكلمات يرسلُ هاتفي النقّالُ بطريقة لاسلكية بعضاً من أعظم ألحان القرن الثامن عشر (مؤلفها الموسيقار العظيم باخ لو كنت تريد معرفة ذلك!!) إلى مكبّر الصوت...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram