د. نادية هناوي
على الرغم من أنّ القصة القصيرة فن مراوغ وصعب الترويض؛ فإنّ لها عند القصاصين العراقيين مكانة خاصة بين الأجناس الأدبية الأخرى منذ ستينيات القرن العشرين وما بعدها.
ولا عجب بعد ذلك أنْ يمتلك قصاصونا نزعات أدبية ومهارات تجريبية تجعل القصة القصيرة الأكثر جذباً للاهتمام النقدي عراقياً وعربياً والأقرب إلى نفوس القراء والمتلقين. وسبب ذلك جماليات هذا الجنس الأدبي الفنية والموضوعية. وأهمها قدرته على السرعة في مجاراة متغيرات الواقع وتحولاته، وهو ما يلبي رغبة القاص في ملاحقة الأحداث والتفاعل معها فلا تفوته الفرصة لاسيما إذا كانت تلك الأحداث سريعة الظهور والتبلور ومن ثم التلاشي وقد يكون هذا الدور شبيهاً بدور القصيدة..هذا فضلاً عن المطاوعة الكتابية التي تجعل هذا الجنس ملائماً للنشر في المجلات والصحف مع مواءمته المستمرة لحاجات القراء الذهنية على اختلافها.
ومن بين النزعات التي استوعبتها القصة القصيرة وعبرت عنها خير تعبير نزعة التضاد مع الواقع ، اتجاهاً به نحو الرمز جمالياً، والاقتراب من تفاصيله حلمياً عبر رؤى فنتازية، يوظف فيها القاص مختلف التقانات الفنية كالفنتزة والمنتجة والتداعي والتغريب والأنسنة والقرين والاسطرة، مرمزاً بها سرده وممرراً رسائل أخلاقية أو جمالية ترفع استجابة وعي القارئ وتعمق مداركه ومشاركته مؤشرة على منحى واقعي إيجابي هنا ومدللة على منحى حياتي سلبي هناك.
وليس في النزوع نحو التجريب هروب من الواقع أو مجافاة لضروراته أو خوف من الرقيب ومجساته أو تملص من أداء المسؤولية؛ وإنما هو الإحساس الصميم بأن في القصة القصيرة إمكانيات أدبية تعبيرية توصيلية لم تستثمر بعد، وأن التعبير عن الواقع ومتغيراته لا يتوصل إليه دوما بالتصريح انغماساً في التفاصيل وتوضيحاً لدقائقها المريرة، بل هناك جوانب حياتية ومعطيات واقعية شديدة المساس بحياة الناس وتطلعاتهم لا يصلح معها إلا التجريب ولا يتوصل إليها إلا بالترميز.
والتجريب والترميز سمتان بهما خالف القاص الخط الواقعي الذي اعتاده كثير من القصاصين، لا لعدم اطمئنانه لهذا الخط وإنما هي الملكة السردية والوعي النقدي اللذان يفرضان عليه انتهاج خط تجريبي، فيه لا ينشغل بالشكل إلا لضرورات يقتضيها الجوهر، ولا يقدم الجوهر إلا لأن الشكل قادر على تجريده من شوائبه وتقديمه تقديما رمزيا يرتفع به جماليا وفي الوقت نفسه يقترب به واقعيا ليكون أكثر التصاقاً بهموم الفرد والجماعة وتماشياً مع رغائبهما.
في وقت كانت فيه القصة القصيرة تشهد عالميا ومنذ عقد الأربعينيات اتجاها تجريبيا عند أهم كتّابها في أوروبا والأمريكيتين الشمالية واللاتينية.
وهو أمر لا ينكره النقد العربي الذي بالمقابل لا يؤشر على تجارب قصاصيه المزامنة في رؤاها للسرد الغربي أو السابقة له في ابتكار خط أو اتجاه إبداعي. والسبب الانحياز الانبهاري اللاواعي لنقدنا إزاء النقد الغربي واتباعيته للهيمنة والوقوع الكلي في الكولونيالية وما بعدها ناهيك عن استكانة المترجمين وتقاعسهم عن ترجمة ما ينجزه قصاصونا من أعمال سردية متميزة وأصيلة، تعرف الآخر الغربي بها مؤكدة غنى التجارب القصصية العربية وكي لا تكون نظرة الغربيين لأدبنا القصصي مقتصرة على تجارب الأدباء الذين يكتبون قصصهم بلغات أخرى غير اللغة العربية.
وإذا أكد ناقد عربي تميز قاص كمجترح ومبتكر فإنما يأتي ذلك عرضاً واستثناء لا تعززه الحاضنة الرسمية العربية التي اعتادت المسايرة والإتباع فلا يهمها نشر التجارب القصصية العربية على المستوى العالمي.
ولا خلاف أن الأدب والنقد وجهان لعملة واحدة لا ينفصلان في وشائجهما الجمالية حتى أن ازدهار احدهما يعني ازدهار الآخر. وبقاء تجارب مميزة بالعموم وتجارب قصصية أصيلة بالخصوص طي النسيان والكتمان يعني ركون النقد العربي مطمئنا ومكتفيا بما في العالم من تجارب قصصية غير عارف أن لديه تجارب ينبغي التنويه عنها والاعتراف بتميزها العالمي.
وبسبب الوعي الجمالي بأهمية التجريب تمكن القاص العراقي إلى نهاية السبعينيات من أن يقدم نتاجا قصصيا هو دليل حقبة زاهرة، ستكون لها في الحقبة اللاحقة انعكاسات على القصة القصيرة وفيها سيقع القصاصون على خط سردي خاص في كتابة القصة العراقية. وهؤلاء الذين وضعوا أيديهم على هذا الخط مجربين نهاية الستينيات هم الذين صاروا مؤسسين نهاية الثمانينيات والقاص جهاد مجيد واحد منهم، فعنده اتضحت بوادر هذا التأسيس من مفتتح العقد السبعيني لاسيما التقديم الذي خص به قصتيه ( لا لون للزمن) و( ليلة منسية من ليالي شهرزاد) المنشورتين في المجموعة القصصية المشتركة ( الشمس في الجهة اليسرى). وفي التقديم طرح القاص مسألتين: الاولى انفتاح النص والثانية ضرورة تجريده من واقعيته وأبعاده الثابتة مع بقائه في كلتا الحالتين مستندا إلى الواقع.
وفي هذا دليل على رؤية متقدمة إبداعياً، ومبكرة زمانياً تفتح حدود النص القصصي لأن تندمج فيه الأشكال الأدبية شعرياً وسردياً بقديمها وحديثها وواقعيها ورمزيها. كل ذلك من خلال التجريب الذي هو وسيلة جمالية فاعلة في بلوغ الهدف المنشود وهو تطوير الواقع استجابة لمقتضياته.
وبسبب هذه الرؤية التجريبية المبكرة في الانفتاح الشكلي بحدود القصة القصيرة على مختلف الأشكال والأجناس تغدو تجربة القاص جهاد مجيد واحدة من التجارب العربية الأصيلة.
وقد طبقها فعلياً في قصة ( ليلة منسية من ليالي شهرزاد) التي فيها جمع بين المنابع والمصبات والأصول والفروع، مطوعا السرد القديم لأن يكون إطاراً شكلياً ينضوي فيه الجوهر الواقعي للسرد الحديث.
وكان لاختيار الشكل الإطاري دور مهم في توكيد هذه المزاوجة السردية بين نوع نثري قديم هو الحكاية الشعبية وجنس سردي حديث هو القصة القصيرة، ماداً الجسور التي تعيد للحكاية الشعبية الحياة كشكل منسي عفا عليه نظام السرد الكلاسيكي. ولعل القصة( ليلة منسية من ليالي شهرزاد) السباقة في الذهاب الى المتن الشهرزداي وإطاره السردي.
وهو ما عني به السرد ما بعد الحداثي فأعطى للحكاية مكانة مركزية لاسيما بعد أن وظّفها جابرييل جاريثيا ماركيز في روايته( مائة عام من العزلة)
ووراء هذا التجريب الشكلي المتداخل بالحكاية مبتغى موضوعي لا يوحي بالتبرم من الواقعية بأشكالها، بقدر ما يدلل على رؤية ميتافيزيقية في التعامل القصصي مع الواقعية. وهو ما أسفر عن نهج سردي جديد هو بمثابة تمشكل من تمشكلات الواقعية سأسميه( تجريد الواقعي) وأعني به نزوع السارد للامساك باللحظة الراهنة واقعياً، وولعه في الوقت نفسه بتشيئة هذا الواقع فنتازياً، وما بين النزوع والتشيؤ يتمركز الرمز وتتعرى الحقيقة، حقيقة الفرد وهو يتغرب عن نفسه وواقعه وقد انمحت ملامح شخصيته وفقد إنسانيته.
وإذا كان تضمين الحكاية الشعبية في السرد ليس بالجديد بوصف التضمين نسقا من انساق بناء الحدث ومن أمثلته حكايات ألف ليلة وليلة نفسها؛ فإن منهج (تجريد الواقعي) سيضيف إليه بعدين متضادين داخل بناء إطاري واحد. فأما البعد الأول فواقعي فكري وأما البعد الثاني فتجريبي فني يستند إلى التداخل وذوبان الأنواع( الحكاية والمسرحية والقصة القصيرة والشعر) وهو ما ينطوي على تحدٍ ليس بالقليل.
هناك مؤشرات كثيرة تدلل على أن السارد كان واعيا وهو يوظف هذا النهج وفيه يجرد المجموع كتابع قلبا وقالبا لمتبوع فرد ساحر وساخر، ووراء تجريب نهج تجريد الواقعي في هذه القصة جماليات منها:1)أن الحكاية الشعبية إطار مطور على مستوى الافتتاح ومستنسخ على مستوى الختام 2)أضفى الاحتفاء السردي بالسجع على القصة تنويعاً لفظياً ومسحة شاعرية وكثير هي الجمل التي تداخل فيها الشعر بالسرد. 3) لم يمنع الإطار التاريخي للحكاية من جعل المحتوى واقعيا ساخراً كتعبير عن الرغبة اللاواعية المكبوتة في جعل السخرية والفكاهة طريقا للتغيير الواقعي 4) وحدة المتعارضات في اللاوعي ما بين طوباوية الطقوس ودراماتيكية الشك والاعتراض كوسيلتين بهما تتحقق الإفاقة الجماعية من الانقياد اللاهوتي المسحور للشيخ الفرد.5)الخيال كما يعرفه كولريدج قوة خلاقة لكنه حين يعضد بالتداخل والذوبان في أبعاده الانزياحية؛ تتعمق قوته الاستعارية وقد اجتمع البعد الاشاري المتعلق بتوظيف الألوان وببعد آخر رمزي يتعلق بالشخصيات الفردية ( شهرزاد وشهريار والشيخ والمرأة 6) والشخصيات المموهة التي غابت أسماؤها وأوصافها ووظائفها وحل في التدليل على وجودها عضو واحد هو العيون ترميزاً لحالة الذلة، وقد غابت العقول ولم يبق في الرؤوس سوى عيونها ( عيون محدقة تقذف وميضها في عيون الليل/ عيون كسولة مستسلمة / عيون متقاعسة/ عيون متحدية / عيون صامدة/ عيون المنخذلين). فسهل الضحك على الذقون بالجهل والسحر) 7) تغريب الواقع واسطرته التي تجعل الانتقاد الموضوعي لظواهر الحياة انتقاداً لاذعاً وفي ذات الوقت متداريا 8) الأفعال الفنتازية التي بها يغدو المجموع حالما ويصبح العالم يوتوبيا من ورق، فتنتفي وحدة العالم الموضوعي.
9) إسناد الفاعلية السردية إلى الهوامش المقموعة( امرأة عاهرة ورجل مطعون وسجين مكبل بالأصفاد وعوانس يصرخن) وستشكل هذه الهوامش الواقع مجازيا بالرموز مستبدلة اللاهوت بالميتافيزيقيا لتبرز القيمة المعرفية وتنحسر القيمة الغيبية. 10) لم تعد الشخصية عنصراً يمتلك اسماً سيميائياً؛ بل غدت مموهة فهي الفرد وهي المجموع يقظة وحلماً، حاضراً وماضياً، ذاتاً وموضوعاً، تجرداً وجسداً.
وباجتماع هذه الجماليات في القصة موضع الرصد يكون (تجريد الواقعي) نهجاً سردياً به صنع القاص جهاد مجيد عالماً أسطورياً إطاره حكائي ومنتهاه واقعي معيش، موظفاً زماناً فنتازيا تداعت فيه الأبعاد الفيزيقية واقتربت من التهويم والطوطمية.