TOP

جريدة المدى > عام > عـصـرُ الـنـوفـيــلّا

عـصـرُ الـنـوفـيــلّا

نشر في: 5 مايو, 2020: 08:59 م

ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي

إيان ماكيوان

يسرّني أن أقدّم أدناه ترجمة للقسم الثاني من رؤية أحد الكُتّاب المرموقين في شأن الرواية القصيرة ( النوفيلا ) .

الكاتب هو إيان ماكيوان Ian McEwan ، الروائي البريطاني ذائع الشهرة ، الذي حوّلت بعض رواياته إلى أفلام معروفة ( الكفّارة The Atonement على سبيل المثال ) . عرض ماكيوان رؤيته هذه في سياق مقالة كتبها في مجلة ( النيويوركر The New Yorker ) في عددها الصادر بتأريخ 29 أكتوبر ( تشرين أوّل ) 2012 ، وربما يرى القارئ ملمحاً تبشيرياً بهذا النوع الروائي رأى الكاتب أنه سيتسيّدُ المشهد الروائي في المستقبل القريب ، ولعلّ مصداق هذا القول يتجسّدُ في نشر الكاتب ( وهو المعروف بمطوّلاته الروائية ) لرواية قصيرة ( نوفيلا ) بعنوان ( الصرصار The Cockroach ) بعد بضعة أشهر من نشر رواية طويلة له بعنوان ( آلات مثلي Machines Like Me ) عام 2019 .

المترجمة

القسم الثاني

الإنغماس في قراءة رواية قصيرة ( نوفيلّا ) عملية أشبه ماتكون بمشاهدة مسرحية أو فلم سينمائي طويل ، والحقّ ثمة تماثلٌ قوي بين السيناريو ( الذي يُكتَبُ في العادة بحدود العشرين ألف كلمة ) والرواية القصيرة ؛ فالإثنان يعملان في النطاق نفسه من المقيّدات المفيدة للأداء والخاصة بمقتضيات الإقتصاد الصارمة : حبكات ثانوية محدودة ( إثنتان لاأكثر ) ، شخصياتٌ يتمُّ بناؤها بضربات سريعة لكنها تُمنَحُ مساحة كافية كي تعيش وتتنفّس ، وقبل كل هذا فإنّ الفكرة المركزية في الرواية القصيرة ، وحتى في تلك الحالات التي قد تخفت فيها تحت الأفق المرئي في الرواية ، هي أن تمتلك دوماً تأثيرها الجاذب الذي لايمكن تغافله أو نسيانه أو غيابه عن عقل القارئ . إنّ المماثلة بين الرواية القصيرة ( النوفيلا ) والفيلم السينمائي والمسرح هي تَذْكِرَةٌ دائمة لنا بوجود عنصر أدائي في الرواية القصيرة ؛ إذ لاتنفكّ تذكّرنا - دوماً - الستارة وخشبة الأداء والممثلون المؤدّون بحقيقة أنّ المؤلف ليس سوى مخادعٍ متمرّس في صنعته الإحترافية ، وأنّ ألعاب الحواة السحرة يعتمدها الكاتب في الرواية القصيرة بأكثر ممّا يفعل في الرواية التقليدية الطويلة ، ولأجل هذا فقد صارت الرواية القصيرة هي الشكل الحداثي ومابعد الحداثي بامتياز تستحقه . تعدُّ مساهمة كونراد ذائعة الصيت في التقليد الفني الخاص بالرواية القصيرة مساهمة نموذجية ( إشارة إلى روايته " قلب الظلام " ، المترجمة ) ؛ فهي تبدأ بفذلكة رائعة تشبه حيلة يعتمدها كبيرُ السحرة عندما نشهد مارلو في فضاء معتمر بالضياء وهو يروي قصته في الوقت ذاته الذي يجلس هو وأصدقاؤه في يختٍ مثبتة مرساتُهُ في قاع مصبّ نهر التيمس عند الغسق ، وماأن يروح الضوء يخفت شيئاً فشيئاً حتى نشهد فكرة الظلام تتجسّد شاخصة أمامنا ، وستظلّ ماكثة لاتبارحُ عقولنا بلا هوادة طيلة المائة صفحة التي تمثّل المتن السردي للرواية . 

رواية " قلب الظلام " ليست بين الروايات القصيرة المحبّبة لي ، والسبب في ذلك أن كونراد يعجزُ عن تلبية متطلباته الشخصية التي وضعها للرواية القصيرة الناجحة ( وقد كشف عن هذه المتطلّبات في مقدمته الفخمة لروايته القصيرة الأخرى المسمّاة " زنجيّ النرجس " ) ، وجوهر تلك المقدمة يقوم على أساس أن الرواية القصيرة هي ما " يقدرُ على جعلك ترى " ماهو كامنٌ في قلب الأشياء ؛ لكنّ كونراد عمل طيلة صفحات روايته القصيرة ( قلب الظلام ) على التبشير بفضائل كتابته التي يعيها ذاتياً بدلاً من إعلاء شأن خصائص الرواية القصيرة التي بشّر بها هو : أن تجعلك ترى قلب الأشياء . 

القصيدة والقصة القصيرة شكلان أدبيان مكتملان ( بمعنى مكتفيان بذاتهما كينونة واحدة مكتملة ) من الناحية النظرية ؛ لكني أشكُّ تماماً في وجود شيء مماثل للقول بوجود رواية ( تقليدية ) مكتملة . الرواية ( التقليدية ) رحيبة الأرجاء ، شاملة ، جامحة ، وشخصية الطابع إلى حدود تجعلها أبعد ماتكون عن الإكتمال ، وهي في طولها المديد قد تبلغ - أحياناً – طولاً لايكفُّ عن تذكيرنا بطول الحياة ذاتها . الروايات " العظيمة " ليست بالروايات المكتملة ، هذه هي المقايسة الطبيعية ، وثمة مثال نموذجي في هذا الشأن يفيدُ بإمكانيتك في إجتراح تعديلات محسّنة لرواية ( آنا كارينينا ) عن طريق إعادة كتابة بعض العبارات الحمقاء التي جاءت في وصف قبّعة مدير محطّة القطار ، وهذا المثال لطالما تمّت مناقشته في أوسع الحلقات التي تُعنى بالرواية . أما من جانبي فقد رغبتُ كثيراً في الإمساك بقلمي وشطب الكثير من العبارات المطوّلة والمصطنعة التي كتبها فلوبير في وصف المشهد الإحتضاري لِـ ( إيما بوفاري ) ؛ فهي تجعلني أبدي شكوكي العميقة في أن يكون فلوبير قد ذرف دموعه الساخنة عليها على الرغم من تسليمي بعظمة هذه الرواية . 

لكن ، وبرغم كل شيء ، أستطيع هنا في أقلّ تقدير تقديم التصورات المميزة لما يمكن توصيفه ( نوفيلا كاملة ) ، أو ، أستطيع تخيّل شكل الرواية القصيرة ( النوفيلا ) التي تجاهدُ في بلوغ الكمال مثلما يفعل المستقيم المحاذي في الهندسة الإحداثية المستوية ( والذي لايبلغ منتهاه أبداً ، المترجمة ) . لستُ أدّعي – مثلاً – أنّ الروايات القصيرة التي لطالما أكبرتُ شأنها ( منها : إيثان فروم Ethan Frome للروائية إديث وارتون ، و رواية لصّ الثكنات The Barracks’ Thief للروائي توبياس وولف ، ورواية المُراقِب The Watcher للروائي إيتالو كالفينو ) هي روايات قصيرة كاملة بأكثر ممّا فعلت العديد من الروايات التقليدية التي غدت أصدقاء خلّصاً لي ؛ لكنّ النوعية الممحّصة ، التلقائية ( غير المشوهة بالإستطرادات المصطنعة ) ، والمكتفية بذاتها والتي تتشاركها هذه الروايات القصيرة مع الرواية القصيرة المثالية كفيلةٌ بجعلها تسلك درب الإكتمال الموعود . إنّ المرء ليشعرُ مع هذه المغامرة وكأنها طموحٌ مكتنفٌ بالحسّ الجمالي عندما يستشعرُ السطوة الضرورية والمطلوبة لهؤلاء الكُتّاب وهو يشرعُ في قراءة الصفحات الأولى لرواياتهم القصيرة . 

الرواية القصيرة ( النوفيلا ) الخليقة بكونها عظيمة حقاً هي رواية ( الموتى The Dead ) لكاتبها جيمس جويس : رواية بسيطة التركيب تتأسّسُ على هيكلية ثنائية مختزلة ( حفلة ، غرفة في فندق ) ، وهي تدعم نداء الإستغاثة التي تعبّرُ عنها أوساطٌ إجتماعية كاملة بحرارة غير معهودة في أعمال سواها . يبدو الجميع وكأنهم يلعبون أدوارهم في زمن حقيقي خبرناه جميعاً من قبلُ ؛ فثمة رقصٌ وغناءٌ في حفلة العشاء السنوي الذي يُقامُ للعمّات ، وثمة صراعاتٌ عائلية وتبادل عنيف للأفكار الخاصة بالهوية الوطنية ، ثم يحصلُ أن يتبادل ( غابرييل ) و ( غريتا ) أفكارهما الصراعية في غرفتهما بالفندق : هذه الدراما الصامتة التي تعكسُ الحماسة الخائبة لغابرييل ، والرؤيا الحزينة الطاغية لغريتا بشأن صبي أحبّها ذات مرّة ثمّ مات ، وبعدها نشهد في الخاتمة تأمّلات ( غابرييل ) الخجولة ، الختامية ، الأقرب إلى تقوّلات فرد أخذته سطوة الكرى بشأن الفناء و إفتقاده إلى الحب في حياته ، وهي كلها موضوعاتٌ تستحثّها ذكرياته التي يرويها في إطار حكايات قريبة للهو المسائي الذي يدور بين المتبطّلين العابثين . أرى من جانبي أنّ تلك المقاطع الختامية التي كتبها جويس في روايته القصيرة ( الموتى ) هي أكثر المقاطع فتنة وغواية في النثر الروائي المسجّل في كلّ المعتمدات الأدبية ، وأراني سأبدي تردّداً وسأتفكّرُ كثيراً قبل أن أقبل بمقايضة هذه المقاطع الختامية القصيرة لقاء خمس عشرة رواية من طراز ( يوليسيس ) لجويس ذاته . تفوّق جويس الشاب على نفسه ومضى بعيداً في الكشف عن مقدرته الروائية الفاتنة ، وأراني مسكوناً بهاجس فنتازي – أحياناً – يلحُّ عليّ بأن أحتفظ على سريري الذي أرقدُ فيه محتضراً بتلك العبارات المشعة المستلّة من رواية جويس القصيرة ( الموتى ) . 

أستطيعُ القول بثقة كاملة ، وبصرف النظر عن عبقرية جويس الروائية ، أنّ المتطلبات الخاصة التي تشترطها كتابة الرواية القصيرة ( النوفيلا ) فضلاً عن كونها تلقي على كاهل الكاتب عبئاً هائلاً في وحدة الموضوع والمسعى الحثيث لبلوغ الإكتمال هي الأمور التي دفعت جويس لكتابة واحدة من أحبّ الروايات القصيرة ( النوفيلا ) المكتوبة باللغة الإنكليزية .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

بوتين: علينا أن نختار السلام الذي يضمن أمننا

حظر تجوال شامل في طرطوس بعد أحداث "جبلة" الدامية

الصدر: أتابع "تيك توك" في أوقات الفراغ وبما يرضي الله

النفط: إنتاجنا من الغاز لا يسد حاجة محطات الكهرباء

النقل: 3 محافظات أكدت جاهزيتها لتنفيذ مشروع طريق التنمية

ملحق معرض العراق للكتاب

مقالات ذات صلة

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة:  صفقة مع الخطر
عام

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة: صفقة مع الخطر

ألِكْس كورمي* ترجمة: لطفية الدليمي بينما أكتب الآن هذه الكلمات يرسلُ هاتفي النقّالُ بطريقة لاسلكية بعضاً من أعظم ألحان القرن الثامن عشر (مؤلفها الموسيقار العظيم باخ لو كنت تريد معرفة ذلك!!) إلى مكبّر الصوت...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram