TOP

جريدة المدى > عام > مقدمة الرحلة وتوجيه القراءة في كتاب مدني وأهوائي للطفية الدليمي

مقدمة الرحلة وتوجيه القراءة في كتاب مدني وأهوائي للطفية الدليمي

نشر في: 9 مايو, 2020: 08:50 م

اشراق سامي

نشر هذا الكتاب عام 2017 وفاز بجائزة ابن بطوطة لكتب الرحلة. تنحو الكاتبة فيه منحى حداثياً أو معاصراً في كتابة الرحلة يتضح عبر بروز الذات وارتفاع صوتها في السرد تعبيراً عن الفرد ولعل هذه واحدة من أكثر وسائل الحداثة تعبيراً عن الإنسان.

وتجدر الإشارة إلى ميزة هذا النوع الكتابي في أن تتشارك الرحلة بوصفها فنا أدبيا مع كل من السيرة الذاتية والرواية السيرية من حيث اعتماد ميثاق سردي واضح يضع عقداً بين الكاتب وبين المتلقي مفاده أن ما يقرأ من أحداث قد حدثت فعلا، وفيما تمتد مساحة السرد للرواية أو السيرة الذاتية على حياة الإنسان بشكل عام يختار أدب الرحلة زاوية محددة يتخذ من خلالها منصة تعبيرية للذات وجدير بالذكر أن هذا الفن لا زال غير خاضع لتعريف دقيق يؤطر حدوده لاسيما أن أغلب الكتابات في هذا الحقل لم تظهر تحت مسمى أدب الرحلات وإنما كانت أحيانا تحت خانة كتب التاريخ أو الجغرافيا أو السيرة الذاتية أو كتب الاعتراف أو أدب الاعتراف مما يجعل النص الرحلي نصاً حافلاً وغنياً بتنويعات معرفية وأدبية ومستويات تركيبية .

تجعل لطفية الدليمي لكتابها تقديماً يفيض بلغة ذاتية؛ إذ تميل فيه نحو تصوير العالم عبر جنوح نحو الشعر وتمرر هذه البداية رسالة واضحة للمتلقي تشير إلى أن العوالم المرسومة داخل هذا العالم تخضع (لوجهة نظر ذاتية ) أي إنها تعد بلغة النقاد (تبئيراً داخلياً واحداً). 

فقد كانت المقدمة ساردة وواصفة في أن واحد معرفّة بالحقيقة على وفق ما تراه وتشعر به لذا فهي تسمح بمرور المعرفة من خلال تصوراتها هي ليس من وصف خارجي أو حيادي مما يسمح بالوثوق في قوة بنيان العوالم المتخيلة ومنحها القدرة على توجيه فكر المتلقي باتجاه رؤى أدبية تحتفي بالخيال وتفتح له أبواب النص مشرعة، وأن الرحلة ستكون أولا قائمة في النفس بل وربما تعود إلى أيام الطفولة وفي ذلك إشارة أوليّة إلى أن سرد الرحلة سيكون ذاتياً، متصلاً بنفس الكاتبة وأحلامها.

وتستهل الكاتبة كتاب الرحلة هذا بمقدمة ذاتية طويلة نسبياً تقترن فيها لغتها بالخيال وبالصور المجازية معتمدة على الذات بوصفها محورا للعالم وأساسا يدور حوله كل شيء فتقول:

"افتتنت منذ صباي بالكتب والخرائط كافتتان الصغار بالحلوى التي ما أحببتها يوما، تظاهرت ذات يوم بأنني نهر في خارطة أو هضبة خضراء تكسوها أشجار البلوط تظاهرت أنني شاطئ بحر تغسل الأمواج آثار العابرين عن رماله، تخيلتني طائر غرنوق أو طائر رخ تظاهرت بأنني أميرة من بلاد بابل تاهت في الصحارى وتنتظر الدليل ". 

هكذا تتبنى الكاتبة منذ الحرف الأول منطقا ذاتياً يتماهى مع العاطفة كثيراً ويجدل من خلالها تصوراته ورؤاه، فهي الطفلة المفتونة بالمدن والخرائط كما يفتتن الصغار سواها بطعم الحلوى وحلاوة الحصول عليها، ولذلك فقد تخيلت نفسها واحدة من مفردات الجغرافية.

وفيما تميل في العادة الكتابة الكلاسيكية عن الرحلة بالاعتماد على مقومات معينة، إلا أنها اختلفت وتغيّرت مع النص الحداثي الذي بنى له اسساً مغايرة تنسجم والسياق الفكري والثقافي العام للإنسان المعاصر فقد اتصفت الرحلة القديمة بميل إلى الوصف الصادق الجلي عبر لغة جزلة تعمد إلى استعمال الصور والمحسنات البلاغية فضلا عن الاستشهاد بأبيات شعرية هذا كله في إطار قصصي، فيما تدور الرحلة المعاصرة حول الذات وتستمد منها الطريقة التي تبصر فيها العالم وفيما تصفه للقارئ.

وهذا ما أرادت لطفية الدليمي أن تمهد له منذ المقدمة عالية الشعرية هذه، إذ تستمر عبرها في وصف رحلتها الأولى، أي رحلة اكتشاف الذات والتعبير عنها فتقول:

"المسافة بين الطفولة والنضج محتشدة بالخرائط والأحلام والسقطات والحكايات، مسكونة بهراء الكبار الذين غادرهم الحلم، كنت انفصل عن الكبار، واقفز في المتاهة، المسافة ومضة، المسافة خدعة، كانت القفزة مجازفة وسن الرشد مدينة لم يكتشفها أحد ".

وهي في رحلة اكتشاف الذات الرحلة الأولى والأهم والأجمل لا بد أن تعود إلى واحدة من أجمل المرجعيات في كتابة لطفية الدليمي، رافقتها في نصوصها القصيرة والطويلة وكانت ملهمة عظيمة لأفكارها ومنهلا عذبا لإحساسها. وأعني بها العرفانية، تلك الطاقة الآسرة من الحب والانتماء للعالم بطريقة ذاتية جدا ولها فرادة وخصوصية عالية لأنها تجربة روحية شخصية، فتقول الكاتبة في مقدمتها للرحلة ما يشير إلى ذلك:

""أوصانا المتصوفة أن نزهد بكل شيء لننال كل مستحيل: أرواحنا والأرض والريح والنجوم والزمن، علمونا أن نأخذ ما نحب بقوة الروح لا بثقل المادة، نتحرر من فتنة الهوى وسطوة الشهوة علينا، علمونا أن لا نتملك كي نمضي خفافا في المتاهة الأرضية شبه طيور تمضي أنى قادتها بصيرة القلب أو خفق الجناح"

توحي هذه المقدمة بأنها استهلال لرواية؛ إذ تتضافر في صوغها القدرة اللغوية العالية مع الخيال الذي يرسم بكثير من الفن والإحساس صورا يمكن وصفها بأنها مرتبطة بالذات كثيرا. تقول الساردة: "بلا بوصلة ولا دليل تهبني خرائط الأرض حق اتخاذ المسار الذي يروق لي فابلغ الأصقاع المجهولة والمدن المحرمة وبوابات الزمن". إن ثمة تبنياً كاملاً للغة مجازية شعرية من قبل الساردة هذه اللغة تؤشر وبوضوح أن العالم يعاد خلقه وتصويرة ومن ثم كتابته على وفق عين الرائية (الساردة) فليست هناك أية مسافة تفصل بينها وبين النص وتختم بقولها:

""برفقة الطيف واصلت التجوال في العالم تشردنا معا جعنا وظمئنا وارتوينا وتضافرت أحزاننا واشتبكت مباهجنا ونشواتنا، هربنا مراراً. إما خوفاً من الموت أو ازدراء لحياة مريعة، رافقني كالقرين اللامرئي والنص اللامقروء والضمير المتخفي في وجدان امرأة تحيا مرتين وتعيش حياتين: مرة في أحلامها وأخرى في أرض الواقع "

بعد هذه المقتبسات من مقدمة كتاب (مدني وأهوائي) يمكن الإشارة إلى أن هذه المقدمة شكلت وعياً لقراءة موحية تفهم منذ البداية ارتفاع صوت الذات ومنحه الحرية الكافية لأن يرى كل شيء بطريقته الخاصة ومن ثم يعبر عن تلك الرؤى بلغة شعرية قريبة من القلب، تخاطب الروح وتطرب الأسماع، وتطرق أبواب البصيرة بهدوء ومحبة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

بوتين: علينا أن نختار السلام الذي يضمن أمننا

حظر تجوال شامل في طرطوس بعد أحداث "جبلة" الدامية

الصدر: أتابع "تيك توك" في أوقات الفراغ وبما يرضي الله

النفط: إنتاجنا من الغاز لا يسد حاجة محطات الكهرباء

النقل: 3 محافظات أكدت جاهزيتها لتنفيذ مشروع طريق التنمية

ملحق معرض العراق للكتاب

مقالات ذات صلة

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة:  صفقة مع الخطر
عام

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة: صفقة مع الخطر

ألِكْس كورمي* ترجمة: لطفية الدليمي بينما أكتب الآن هذه الكلمات يرسلُ هاتفي النقّالُ بطريقة لاسلكية بعضاً من أعظم ألحان القرن الثامن عشر (مؤلفها الموسيقار العظيم باخ لو كنت تريد معرفة ذلك!!) إلى مكبّر الصوت...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram