لطفية الدليمي
(عالمُ مابعد الجائحة الكورونية لن يكون كالعالم الذي قبله): أظنّ أنّ هذه العبارة هي الأكثر شيوعًا - من عبارات أخرى سواها - ردّدتها كتابات الفلاسفة والمفكّرين ذوي المراتب الثقافية الرفيعة في الوقت ذاته الذي صارت فيه إيمانًا راسخًا لدى سكّان كوكبنا الأرضي.
ليس هذا بالأمر اليسير؛ فهو يشي بأنّ الناس راحت تستشعرُ (مستعينة بأدوات التفكّر العميق المسند بالوسائل العلمية التحليلية أو بمحض القناعة التي تتخذ شكل الإيمان الميتافيزيقي) بأنّ البشرية بأسرها تخوض في لجّة مضطربة عسيرة باهظة التكلفة سيترتّب عليها بالضرورة تغيّر أساسي في أنماط الحياة البشرية وصورة العلاقات الحاكمة بين البشر والبلدان والجغرافيات فضلًا عن تضاريس الخرائط الفكرية والثقافية والتعليمية.
البعضُ قد يذهب مذهبًا ديستوبيًا حالكًا يتناغم مع رؤيته السوداوية للأمور؛ فيصوّرُ واقع الحال وكأننا أمسينا على أعتاب مرحلة قيامية apocalyptic منذرة بفناء البشرية. صحيحٌ أنّ هذه الجائحة الوبائية الكورونية تبدو شديدة القسوة وغير مسبوقة؛ لكنّ العقل العلمي المدرّب لاينظرُ إليها من ثقب الديستوبيا التي شاعت في أيامنا هذه وغادرت ثنايا كتب الخيال العلمي لتصبح أطروحات يقينية مغلّفة بأغلفة آيديولوجية أو دينية تبشّرُ باقتراب نهاية العالم وفنائه. العقلُ العلمي لايرتكنُ إلى هذه الأطروحات القيامية التي تتناغمُ مع البصمة السايكولوجية لكثرة من البشر الذين يحيون على هذه الأرض؛ إذ ينذر هؤلاء بالفناء البشري المحاط بالأجواء الكارثية المظلمة، وقد يؤطرون رؤاهم المنذرة بمنكّهات مفاهيمية تمنح هذه الرؤى شيئًا من مقبولية لدى العامة؛ فنراهم يكتبون عن موت الرأسمالية وموت العولمة وموت نظرية الدولة وسواها من الميتات التي لطالما طرقت عقولنا منذ عقود. العقل العلمي في الجانب الآخر هو عقل مضاد للديستوبيا بالضرورة، وقد لا يكون مبشرًا بيوتوبيا على شاكلة اليوتوبيا التي شاعت في أعقاب الثورتين الصناعيتين الأولى والثانية ولبثت تأثيراتهما فاعلة حتى نهاية الحرب العالمية الأولى؛ لكنّ العقل العلمي هو عقل محكومٌ بالأمل: يجتهد ويتقصّى ويسائلُ ولايفرّطُ بطاقته الجبارة في الدهاليز الديستوبية المظلمة.
الكائنات الديستوبية مخلوقات شديدة الخطورة تجاه ذواتها والآخرين معًا، وقد لاتتقصّد الإيذاء بقدر ماتعكسُ نمطًا من السلوك السايكولوجي المحكوم بنوازع كارثية؛ لكن في كلّ الأحوال ربما (وأقول ربما) قد يساعد انتصار العلم والتقنية في تحقيق الغلبة على العوامل المهددة بتدمير النوع البشري في كسر الرؤية الديستوبية لدى هؤلاء أو التخفيف من غلوائها في أقلّ تقدير. قد يجادل بعض عُتاة الديستوبيين: إذا كانت فكرة الديستوبيا غير مطلوبة؛ فلماذا إذن وُجِد أدب الخيال العلمي الديستوبي الذي حقّقت بعض سردياته (ولم تزل تحقّق) قراءات كبرى منذ إج. جي. ويلز حتى يومنا هذا؟ الجواب ببساطة: ثمة فرق عظيم بين أن تكتب عن حالة ديستوبية (راهنة أو مستقبلية) بقصد توصيفها وتجاوزها -وأنت تشيعُ الأمل بقدرة العقل البشري الهائلة على تجاوز الكوارث ووعورة المسالك في مسيرته التطوّرية - وبين أن تشيع حالة سوداوية موجعة ليست سوى انعكاس عقلي لوضع نفسي تدميري يستطيب فناء البشرية ويتلذّذُ برؤية البشر وهم يلعقون جراحهم ولا يمتلكون القدرة على دفن موتاهم.
ليست أيامًا مريحة أو مرغوبًا فيها هذه التي نعيشها اليوم؛ لكنّنا سنخطئ خطأ ستراتيجيًا إذا ماجعلناها مصداقًا لرؤى الديستوبيين ونذرهم ووضعهم النفسي المنذر بالفناء ومشهديات القيامة المرعبة.
ونبقى محكومين بالأمل.