صلاح نيازي
- 1-
"عن الخصال عن عكرمة عن ابن عباس قال أبو بكر: يا رسول الله اسرع إليك الشيب، قال شيّبتني هود، والواقعة، والمرسلات، «وعمَّ يتساءلون»
أدناه محاولة تجريبية لدراسة بعض السور المكّية بدءاً بسورة «عمَّ يتساءلون». لكنْ لِمَ هذه المحاولة، وثمة تفاسير وافية كافية من قبل؟ التفاسير نظرياً وكذلك عملياً، مهما أفاضت، والتفاسير مهما دقّت وعمقت، لا تلغي بالضرورة نهجاً جديداً في فهم النصّ، استجابة لما استُحْدِثَ من نظريات نقدية، وما جدّ من معارف وعلوم تعين الباحث على استنباطات، ربما لم تتيسر للسابقين، ليتوصلوا اليها بالمثل.
المفسّرون القدامى - ولهم القِدْح المعلّى - بذلوا جهوداً تدعو إلى كلّ إكبار. لم يتركوا شاردة أو واردة، ولا كبيرة أو صغيرة، الا وقتلوها بحثاً وتمحيصاً واجتهاداً. لكنَّ طريقتهم - مع ذلك - في تفسير الآيات شابها بعض الغموض والارتباك معاً، مردّ ذلك أنهم لم ينظروا إلى السورة كوحدة عضوية متواشجة، وإنما جزّأوها إلى آيات، فراحوا يفسّرونها كلاً على حدة.
معظم تفاسيرهم قاموسية لغوية أو استنجدوا بالقاموس والشعر القديم لإيجاد المعنى. بهذه الطريقة لم ينظروا إلى السورة كبناء معماري تدريجي واحد يكمّل بعضه بعضاً، ولا للكلمات على أنها بذور تنمو وتتطور، آية بعد آية، فتبتعد عن قاموسيتها، لتتخذ مواضعات جديدة نفسية وبلاغية، متفردة، الاستعانة بالقاموس ضرورية، ولكنه خطر إن جُعِل حَكَما فصلاً.
النظرة إلى السورة - أية سورة - كجمل مقطوعة عن بعضها، يقتل أول ما يقتل، الحركة المتنامية المتدافعة، وهي من أهمّ ميزات أسلوب التأليف القرآني. وهو نفس ما عانيناه من تفاسير الشعر القديم، بيتاً بيتاً، أي انهم لم ينظروا إلى القصيدة كعمل متداخل.
اذن في هذه المحاولة التجريبية، منحى لقراءة السورة كنسيج واحد، وسنرى كيف أنَّ الآيات الأخيرة في سورة «عمَّ يتساءلون» مثلاً، لم تكن إلا بذوراً غُرستْ في بداية السورة، فنمت وتطورت.
أول ما يلفت الانتباه في اختلاف القراءات هو قراءة «عمَّ».
هل هي «عمّا» كما في قراءة عكرمة وعيسى بن عمر، وقد اعتبرها الطبرسي في الشواذ؟ أم «عَمَّه» بهاء السكت كما في قراءة ابن عامر. ذكر الزمخشري : «وعن ابن كثير أنه قرأ بهاء السكت».
الاختلاف الآخر يواجهنا في الآية: «كلاّ سيعلمون، ثم كلاّ سيعلمون». هل هي «كلاّ ستعلمون، ثم كلاّ ستعلمون»؟
قال الطوسي: وقرأ ابن عامر: « كلاّ ستعلمون» بالتاء على الخطاب فيهما أيْ قلْ لهم ستعلمون عاقبة أمركم - بالياء على الغيبة وهو الأقوى لقوله «عمَّ يتساءلون» وقوله «الذين هم فيه مختلفون» ولم يقل أنتم، وهذا ما ذهب اليه الطبرسي على مذهب العامّة فيهما بالياء على الخبر»
وهل الآية هي: « وأنزلنا من المعصرات ماءً ثجاجاً» أم أنها «بالمعصرات».قال الطبري: «حدثنا ابن حميد قال ثنا يحيى بن واضح قال ثنا الحسين عن يزيد عن عكرمة إنه كان يقرأ وأنزلنا المعصرات». وذكر الطبري كذلك شيئاً مشابهاً عن مجاهد ثم قال: حدّثنا بشر قال ثنا يزيد قال سعيد عن قتادة قال هي في بعض القراءات وأنزلنا بالمعصرات»: الرياح. ويذكر القرطبي: «وفي قراءة ابن عباس وعكرمة: «وأنزلنا المعصرات».
ومن الاختلافات في القراءات، كما ذكرنا اعلاه في: لابثين فهل هي «لبثين»؟
يقول الطبري: «واختلفت القراءات في قوله لابثين. فقرأ ذلك عامة قراء المدينة والبصرة وبعض قراّء الكوفة لابثين بالألف وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة لبثين بغير ألف».
يعلّق الطبري على القراءتين بالقول: وأفصح القراءتين وأصلحهما مخرجاً في العربية، قراءة مَنْ قرأ ذلك بالألف، وذلك أن العرب لا تكاد توقع الصفة اذا جاءت على فعل فتعملها في شيء وتنصبه بها لا يكادون أن يقولوا هذا رجل بَخِل بماله ولا عَسِر علينا ولا خصِم لنا لأن فَعِل لا يأتي صفة إلاّ مدحاً أو ذماً. فلا يعمل والذمّ في غيره. واذا أرادوا إعمال ذلك في الاسم أو غيره جعلوه فاعلاً فقالوا هذا باخل بماله وهو طامع فيما عندنا، فلذلك قلت إن لابثين أصحّ مخرجاً في العربية وأفصح ولم أُحِلّ قراءة مَنْ قرأ لبثين. لا شك أن الطبري فاضل بين لابثين ولبثين من حيث الفصاحة، ولم يفاضلْ بينهما من حيث موقعهما النفسي والبلاغي في الآية (سنعالج الفرق بينهما لاحقاً).
القرطبي في تفسيره «الجامع لأحكام القرآن» لا يختلف عن الطبري، من حيث الاعتماد على المعنى اللغوي في التفريق بين لابثين ولبثين. اذ يقول: «لابثين اسم فاعل من لبث، ويقول إن المصدر منه اللّبْث بالإسكان كالشرْب. وقرأ حمزة والكسائي «لبثين» بغير ألف وهو اختيار أبي حاتم وأبي عبيد، وهما لغتان. يقال رجل طَمِع وطامع، وفَرِه وفاره، ويقال: هو لَبِثٌ بمكان كذا: اي صار اللبث شأنه، فشبه بما هو خلقه في الانسان نحو حذِر وفرِق، لأن باب فَعِل إنما هو لما يكون هو خلقة في الشيء في الأغلب، وليس كذلك اسم الفاعل من لابث».