TOP

جريدة المدى > عام > التــأريخ الكــبــيــر : لِماذا نحتاجُ إلى تعليم قصّة الأصل الحديثة ؟

التــأريخ الكــبــيــر : لِماذا نحتاجُ إلى تعليم قصّة الأصل الحديثة ؟

نشر في: 12 مايو, 2020: 09:22 م

ديفيد كريتسشيان - ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي

فَرَضَ العلم - والتقنية كذلك - واقع حال مستجدّاً صرنا معه مدفوعين دفعاً - لاقدرة لنا على مناكفته أو تعويقه -

لإعادة كتابة تأريخنا الطبيعي والبشري بطريقة تستفيد من الرؤية العلمية التي تعتمد على منظور الأنساق المعقدة المتفاعلة مع بعضها في إطار مركّب حيوي واحد . ثمة مؤرّخون خرجوا على سياقات البحث التأريخي في أصول النشأة الأولى الخاصة بكلّ مجتمع وراحوا ينقّبون بجهد وصبر في حكاية الأصول الأولى الخاصة بالبشرية باعتبارها مركّباً بشرياً واحداً شاملاً بصرف النظر عن التباينات العرقية والبيئية المحلية ، ويدعى هذا البحث ( التأريخ الكبير Big History ) - ذلك المبحث الذي أسّسه المؤرّخ ( ديفيد كريستشيان David Christian ) وجعل منه برنامجاً بحثياً حافلاً بشتى الكشوفات المعرفية التي أثارت إعجاب الكثيرين ومنهم ( بل غيتس ) الذي تبرّع للمشروع بعشرة ملايين دولار على أمل أن يصبح المشروع برنامجاً دراسياً في الثانويات والجامعات الأمريكية بديلاً عن التواريخ التقليدية التي تعلي شأن الوقائع بدل الأفكار . 

كتب ( بِل غيتس ) في مدوّنته الألكترونية العالمية عام 2012 التقريظ التالي بشأن فكرة ( التأريخ الكبير ) :

فجّر ديفيد كريستشيان عقلي ؛ فها نحن أمام إنسانٍ متفكّر قرأ الكثير في الروابط الجامعة بين العلوم والإنسانيات والعلوم الإجتماعية ، وربط كلّ مقروءاته في صيغة إطارية بنيوية جامعة ، وقد بلغت بي الدهشة حدّ أنني تمنّيتُ دراسة مقررات مدرسية وجامعية في موضوعة ( التأريخ الكبير ) في أيام شبابي ؛ إذ أنّ هذا الأمر كان كفيلاً بجعلي أتفكّر بطريقة أفضل بشأن كلّ عملي المدرسي وقائمة مقروئاتي اللاحقة ومجمل رؤيتي المهنية . إنّ مايفعله ( التأريخ الكبير ) ، بخاصة ، هو أن يضع العلوم في سياق تأريخي بالغ الإدهاش يمتلك القدرة على توضيح الكيفية التي يمكن بها تطبيق الأفكار العلمية على الكثير من الجوانب المعاصرة في حياتنا. 

إنّ فهم قصة الأصول الأولى للبشرية موضوعة حاسمة في تشكيل صورة المستقبل الذي نتوجّه إليه وترتسم معالمه أمامنا في اللحظة الحاضرة ، وستتكفل القراءة الواعية والصبورة لهذا النوع من التواريخ المستحدثة في إحاطة القارئ بنظرة محدّثة وغير مسبوقة ستمكّنه في نهاية الأمر من حيازة قدر أعظم من المعرفة يكفي لتفهّم مكانة الإنسان في هذا الكون من جهة ، وإدراك العلاقات المشتبكة بين الإنسان وسائر البشر والموجودات في هذا العالم والكون بعامة .

ديفيد غلبرت كريستشيان David Gilbert Christian ( مولود عام 1946 ) : مؤرّخ وأستاذ جامعي مختص بالتأريخ الروسي ، وقد حاز شهرة عالمية نشأت بسبب تعليمه وتبشيره بمقاربة جديدة للتأريخ العالمي أسماها ( التأريخ الكبير Big History ) . 

بدأ ديفيد كريستشيان تدريس البرنامج الدراسي الأول في التأريخ الكبير عام 1989 بمعونة عدد من الأساتذة المتخصصين في مجالات معرفية عديدة من العلوم الطبيعية والعلوم الإجتماعية والإنسانيات . يُعرَفُ عن ديفيد كريستشيان بأنه كاتب مُجيد للغاية ويمتلك القدرة في جعل الأشياء المعقدة تبدو أمراً يبعث على المرح والفكاهة والتفكّر المسهب في الوقت ذاته.

ألّف البروفسور كريستشيان عدداً من الكتب ، أذكر منها: 

- خرائط الزمن: مقدّمة إلى التأريخ الكبير، 2005

• Maps of Time: An Introduction to Big History, 2005

- التأريخ الكبير : مابين اللاشيء وكلّ شيء ، 2014 (بالإشتراك مع سينثيا ستوكس براون و كريغ بنجامين) 

•Big History: Between Nothing and Everything , 2014, (co-written by Cynthia Stokes Brown and Craig Benjamin)

- قصّة الأصل : تأريخ كبير لكلّ شيء ، 2018

•Origin Story: A Big History of Everything, 2018

أقدّم أدناه ترجمة للمقالة المعنونة ( التأريخ الكبير : لِماذا نحتاجُ إلى تعليم " قصّة الأصل " الحديثة ؟ ) التي نشرها ديفيد كريستشيان في الموقع الألكتروني ( The Conversation ) بتأريخ 7 تشرين الثاني 2012 . أدناه الرابط الألكتروني لهذه المقالة : 

https://theconversation.com/big-history-why-we-need-to-teach-the-modern-origin-story-10405

 المترجمة

تشكّل كلّ المجتمعات البشرية - وتعلّمُ أيضاً - أساطير الخلق أو قصة الأصل Origin Story الخاصة بها ، وهذه القصص هي بمثابة حكاياتٍ شاملة وذات سطوة تتجاوز المديات الطبيعية المعهودة ؛ لكنّ هذه القصص غالباً ماتتقاطع مع السرديات التي تحاولُ عرض الكيفية الحقيقية التي إنبثق كل شيء بها إلى الكينونة التي صار عليها . 

توفّر مثل هذه السرديات خرائط فكرية يمكن أن تساعدنا في موضعة أنفسنا وعائلاتنا ومجتمعاتنا في هذا العالم فضلاً عن إمدادنا بوسائل القدرة على التفكّر العميق فيه . إنّ موضعة أنفسنا في سياق شيء أكبر من أنفسنا ذاتها لهو أمرٌ خليقٌ بجعل قصص الأصل قادرة على إمدادِنا بالمرتكزات الفكرية والأخلاقياتية .

هذا هو السبب الذي يجعل كلّ التقاليد الروحية تحوز على هذه السرديات الكبيرة في تفاصيلها ؛ فنحنُ نشهد مثل تلك السرديات في قلب كلّ من المجتمعات الصغيرة ذات التقاليد الشفاهية مثلما نشهدها في المصنّفات اللاهوتية التي تزخر بها الأديان الكبرى ذات البُنيات المؤسساتية الراسخة . 

لعبت حكايات الأصل أيضاً ، وبصورة تقليدية ، دوراً مركزياً في التعليم لأنها منحت المعرفة شكلاً ومعنى مناسبيْن ؛ لكن في أنظمة تعليمنا العلمانية الحديثة نحنُ لانقدّمُ تعليماً بشأن قصّة الأصل ؛ فقد صرنا معتادين على غياب مثل تلك القصص إلى حدّ غدا معه أمراً طبيعياً أن نتعلّم ونُعلّم من دون واحدةٍ من قصص الأصل .

يمكنُ بالطبع لكلّ منّا أن يتعلّم الكثير بشأن بواكير قصص الأصل الخاصة بالمجتمعات الأخرى ، أو بشأن قصص الأصل الأولى الخاصة بنشأة تقاليدنا الثقافية رغم أنّ هذه القصص قد تتناغم بأقلّ الحدود الممكنة مع عالمنا الذي نعيش فيه اليوم . يمكن للمرء أيضاً في دروس التأريخ الجامعية أن يتعلّم الكثير بشأن قصص الأصل الأنثروبولوجي للأمم ؛ لكنّ هذه القصص تنفع مع مجتمعاتٍ بذاتها دون سواها .

إنّ مايعوزُنا هو قصّة أصلٍ كونية تنفع مع كلّ المجتمعات المعولمة في يومنا هذا ، وكنتيجة لهذه القصّة العالمية فإنّ المعلّمين سيعلّمون ، والمتعلّمين سيتعلّمون ، من غير الحاجة إلى هياكل تنظيمية كبرى والركون إلى حسّ التكييف ( المحلي ، المترجمة ) التي تستلزمها قصص الأصل الأخرى ( غير العالمية ، المترجمة ) . 

من غير هذه البنى تبدو المعرفة ذاتها متشظية ، ، ويحصل في الغالب أن يغادر الطلبة مدارسهم وجامعاتهم بأحساسٍ طافح من إنعدام المعنى وبنوعٍ من فقدان المعايير الإجتماعية أو الأخلاقياتية - ذلك الإنزياح الذي وصفه عالم الإجتماع الفرنسي إميل دوركهايم بمفردة ( anomie ) . 

إنّ الفشل في تعليم قصة الأصل الحديثة موضوعة مثيرة للفضول لأنّ مثل هذه القصة تندسُّ بين ثنايا العلم الحديث ، وهي قابعة تنتظر من يستخلصها من تلك الثنايا .

قصة الأصل الحديثة هيكلٌ واسع لكنه متداعٍ ولاأساس متيناً يثبّتُ عناصره المختلفة : نتفٌ من الفيزياء النووية ، بعض الكوسمولوجيا ( علم الكونيات ) ، حكايات بشأن قوة وإبداع الحمض النووي DNA ، التنوّع المدهش للعضويات المتطورة ، التأريخ الغريب لنوعنا البشري ذاته والذي تكتنفه تفاصيل جديرة بالدراسة المكثفة . لكن برغم كلّ شيء يمكن حقاً لمّ شمل كلّ هذه النُتف والأجزاء المبعثرة في إطار قصّة متماسكة متناغمة الأجزاء تتأسّسُ على شواهد مستمدّة من أفضل النظريات العلمية الراسخة . إنّ " التأريخ الكبير Big History " ، ذلك البرنامج الدراسي الذي عملتُ على تدريسه في الجامعة لأكثر من عشرين سنة ، يسعى لأن ينهض بعبء تلك المهمّة : سردُ قصّة الكون ومكانتنا فيه بمعونة أفضل ماهوَ متاحٌ في خزائن العلوم والإنسانيات من الرؤى والنظريات .

يبدأ التأريخ الكبير مع الإنفجار العظيم ، قبل 13.7 بليون من السنوات . يخبِرُنا هذا التأريخ كيف تشكّلت النجوم والكواكب ، وكيف إنبثقت الحياة وتطوّرت على أرضنا ؛ أما الأجزاء الأخيرة من هذا التأريخ فتخبِرُنا عن تلك القصة الغريبة والمثيرة التي تخصّ نوعنا البشري المميز والخطير في الوقت ذاته . يسعى التأريخ الكبير - باختصار - للجمع بين الإنسانيات والعلوم في أطروحة متماسكة بشأن الكيفية التي استحالت بها الأشياء لتكون على ماهي عليه في وقتنا الراهن . 

عندما شرعنا في تعليم التأريخ الكبير إكتشفنا سريعاً أنّ طلبتنا لم يكتفوا بقصة تنتهي في يومنا هذا ؛ بل أرادوا فوق ذلك أن يتساءلوا إلى أي مدى يمكن أن تمضي هذه القصة : هل سيستمرّ النمو ( البشري والإقتصادي ) ؟ هل سيكون ثمة إنهيارٌ ( في كوكب الأرض ) طالما أننا نقلّل من شأن التأثيرات البيئية الخطيرة التي يتسبّب بها المجتمع البشري الحديث ؟ هل سنطوّرُ علاقة أكثر استدامةً مع بيئتنا ؟ 

يأخذنا البرنامج الدراسي للتأريخ الكبير أيضاً إلى المستقبل من خلال طرح التساؤل التالي : ماالذي نحتاج لفعله ؟ . تثبتُ قصة الأصل الحديثة ، مثل سواها من القصص ، إنها مليئة بالدلالة الأخلاقياتية ، وتطرح تساؤلات عميقة بشأن الكيفية التي ينبغي أن توجّه سلوكياتنا البشرية . 

يوجد اليوم مايقاربُ الخمسين برنامجاً دراسياً في ( التأريخ الكبير ) في الجامعات والكليات ، ومعظم تلك البرامج الدراسية تُدرّسُ في الولايات المتحدة الأمريكية ؛ لكن ثمة البعض منها يُدرَّس أيضاً في أستراليا ، كوريا ، هولندا ، روسيا . بالإضافة لما تقدّم تمّ تأسيس الجمعية العالمية للتأريخ الكبير International Big History Association عام 2010 ، وقد عقدت هذه الجمعية مؤتمرها الأوّل في آب ( أغسطس ) 2012 .

إقتنعتُ لسنوات طويلة أنّ البرامج الدراسية الخاصة بالتأريخ الكبير ينبغي تدريسها على مستوى الدراسة الثانوية ؛ لكن لم تكن لديّ فكرة بشأن كيفية البدء بهذا المشروع ، ومن أين ينبغي البدء به . حصل عام 2008 أن تناهى لمسامع ( بل غيتس ) فكرة التأريخ الكبير ، وقد شعر أنّ مثل هذه البرامج الدراسية يجب تعليمها على نطاق المدارس الثانوية .

إتصل غيتس معي ، وأنشأنا معاً مشروع التأريخ الكبير Big Histoy Project الذي تكفّل عام 2013 بعبء تطوير برنامج دراسي مفتوح المصدر online مجاني في مادة ( التأريخ الكبير ) للمدارس الثانوية في الولايات المتحدة وكذلك لكلّ من يرغب بالتعلّم الذاتي المستقل على نطاق العالم كله . 

يبدو الأمر وكأننا نكتشف رويداً قصة الأصل الحديثة الخاصة بنا - نحن الجنس البشري - ، تلك القصة التي تشدُّ أركان كلّ المجتمع العالمي الذي يضمُّ سبعة بلايين من البشر في عالم اليوم . هذه القصة ستكون قصة الأصل الأولى في القرن الحادي والعشرين التي تتناول كلّ البشرية ( ولاتقتصر على مجموعة بشرية دون سواها ، المترجمة ) . 

أؤمنُ - بالنظر إلى السبب الوارد أعلاه - أنّ التأريخ الكبير سيوفّرُ قوة جامعة عظيمة الشأن في عالمٍ ستغدو فيه المشاركة العالمية عنصراً أكثر حيوية من ذي قبلُ ؛ لكن ربما ماهو أكثر أهمية من هذا هو أملي في أنّ التأريخ الكبير سيوفّرُ للدارسين - طلبةً وعامّة الناس - إحساساً بموضعهم في الصورة الأكبر للعالم الذي يتشاركونه مع الآخرين من البشر .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

مقالات ذات صلة

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة:  صفقة مع الخطر
عام

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة: صفقة مع الخطر

ألِكْس كورمي* ترجمة: لطفية الدليمي بينما أكتب الآن هذه الكلمات يرسلُ هاتفي النقّالُ بطريقة لاسلكية بعضاً من أعظم ألحان القرن الثامن عشر (مؤلفها الموسيقار العظيم باخ لو كنت تريد معرفة ذلك!!) إلى مكبّر الصوت...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram