علاء المفرجي
-9-
المخرج الألماني الكبير هيرتزوغ يختار شخصية إمرأة غربية لعبت دوراً بارزاً في بدايات القرن العشرين في دول الشرق وخاصة العراق.
اختار هيرتزوغ شخصية على الرغم من شحنة الدراما والحركة في شخصيتها وسيرتها، فضلاً عن دورها التاريخي المؤثر في فترة ما بعد الحرب العالمي الأولى، اختارها لفيلمه الجديد.. وهي تدخل ضمن انشغاله في تقصي جوانب مهمة لكنها مهملة من التاريخ لوضعها أمام كاميرته لإعادة الحياة لها ولسيرتها.. فقط مخرج من طراز فيرتر هيرتزوغ ينتبه إلى مثل هكذا موضوعات لا تتعلق فقط بسيرتها، بل باستبطان أغوار هذه الشخصية، وسرد الأحداث التاريخية التي وأسهمت في تكوينها.
وإذا كانت المسزبيل قد جالت الشرق منقبة عن آثاره منذ فترة صباها قبل الحرب الأولى، فإنها قد استقرت في العراق نهائياً بعد الاحتلال البريطاني للعراق وكان لها دور رئيس في تأسيس الدولة العراقية وأيضاً حتى وفاتها عام 1926. من المؤسسين للمتحف العراقي، والمكتبة العامة.
وكانت لها مقولتها الشهيرة بعد تولي فيصل عرش العراق، حيث كتبت لأبيها: " ثق بأني لن أصنع الملوك بعد الآن، وسأدرس ملوك العراق القدامى". ومخرج فطن مثل هيرتزوغ لا يمكن أن يغفل أن الجانب الأهم في سيرة المسزبيل كان في العراق.
هيرتزوغ لا يُخفي حقيقة أنه لم تكن له معرفة سابقة بـ(بيل) إلا من خلال منتج الفيلم، لكنه بالتأكيد عمل على الإلمام بكل مفاصل حياتها وسيرتها التي تبدأ من تخرجها من جامعة اكسفورد هي التي تنتمي الى عائلة نبيلة في بريطانيا وليس انتهاء بمغامراتها في بلاد فارس والصحراء العربية.
لكن ذلك لم يكن كافيا لديه في ان يصنع فيلما يفي الجانب السياسي التاريخي لهذه الشخصية حقه خاصة بالنسبة لنا نحن شعوب الشرق الذين تحتفظ وثائقهم وذاكرتهم لهذه المرأة انها اختطت لهم مصيرهم، هذا المصير الذي ما زالت منطقة الشرق الاوسط تعاني من تداعياته السياسية والاجتماعية حتى يومنا هذا.
هيرتزوغ لم يكن مهتماً بالأحداث السياسية والتاريخية التي رافقت شخصية بيل وانفعلت بها، بل وصنعت البعض منها، قدر اهتمامه بسيرة بيل العاطفية سيرتها كأمرأة مغامرة تحاول أن تغير بنمط حياتها وتنتقل من الحياة الارستقراطية الهادئة في انكلترا في عز مجدها الى الصحراء، وتحديداً الى منطقة ستكون يوماً ما بؤرة الاضطراب والتوتر في العالم.. امرأة قوية، قوتها في أن تختار أسلوباً لحياتها وقناعتها. كانت المرأة الوحيدة بين 40 رجلاً وقع عليهم الاختيار من قبل وزير المستعمرات تشرشل للمشاركة في مؤتمر القاهرة عام 1921 حول مستقبل المنطقة.
افتتح الفيلم بمشهد اجتماع لقادة عسكريين يبدو فيه وينستون تشيرشل يقسّم المنطقة العربية على الخريطة غداة سقوط الإمبراطورية العثمانية،. يقترح لورانس بإستشارة جيرترود لأنها الأكثر دراية بالمنطقة وجغرافيتها، ثم يعود بنا هيرتزوغ اثني عشر عاماً لنتقصى سيرة جيرترود، بعد تخرجها الجامعي وذهابها إلى عمها بطهران وقصة علاقتها بالسكرتير الثالث في السفارة البريطانية، ورفض والدها الزواج منه لمستقبله غير المضمون، ثم يتكفل موته بالبقية ، وتعلُّمها الفارسية والعربية بعد انتقالها إلى السفارة بعمان والعيش هناك بالصحراء على حدود السعودية، بينما يختتم هيرتزوغ الفيلم، بتشيرشل يلتقط صورة تذكارية له أمام أبي الهول والأهرامات .
المتلقي وبشكل خاص الذي لا يعرف (مس بيل) من خلال هيرتزوغ ستحتفظ ذاكرته بامرأة غربية قدمت الى الشرق وعاشت علاقات عاطفية مختلفة.. سيساعده في ذلك السيناريو غير المنضبط بحبكة أو ترابط درامي، الذي اعتمده هيرتزوغ وسنكون بذلك أمام فيلم تقليدي في أحداثه وموضوعه وفي رسم شخصياته.. وهذا يتعارض مع أفلام هيرتزوغ التي تبحث في أحداث وشخصيات مستحيلة ومغامرة.
مخرج بوزن هيرتزوغ ربما كان تناوله لسيرة (بيل) قصدياً ، فقد اغفل جوانب مهمة من حياتها كانت في الفيلم مجرد خلفيات لسيرتها على الرغم من أهميتها المصيرية لشعوب المنطقة وكذلك لـ(بيل) نفسها والتي رسمت حدود هذه البلدان على الرمال.