طالب عبد العزيز
في معظم المجتمعات الحية يتم اخضاع كل ظاهرة للدرس، بما فيها الظواهر البسيطة، حتى لتبدو لنا قضية مثل ركوب الدراجة الهوائية ذات معنى، وتستحق التوقف والتأمل. أا في مجتمعاتنا العربية، وبسبب السياسة الفاشلة للحكومات، والخوف من سلطة الحزب الديني والجماعات المسلحة فيه، كذلك، وبسبب العرف الاجتماعي-القبلي، فقد اضطر الكثير من الباحثين والدارسين الى تناول النافل والمعلن والمسموح به في حياتنا،
فيما ظلت عشرات الظواهر بعيدة عن التناول والدرس والتقصي، على ما في ذلك من نكوص وأثر سلبي، يطال أجيالنا، وبما يجعلنا خارج زمننا الفيزياوي، بعيدين عن اللحاق بركب الأمم المتحضرة.
ولعل واحدة مما نود تبيانها هنا، هي ظاهرة اختفاء النقد في ثقافتنا، بل وندرة نقاد الأدب، مع إننا نطالع أخبار المئات من أساتذة الجامعة، من الذين نالوا الدرجات الرفيعة بأطاريحهم، أولئك الذين نسارع الى تهنئتهم على جهودهم البحثية، لكنْ، هل وجدنا في بحوث الكثير منهم ما يسهم في تمكين مجتمنا من التقدم خطوة، أو يجعل من حياتنا ممكنةً؟ ولكي نفصح أكثر نقول: ما الاهمية المرجوة في حياتنا من بحث عنوانه، على سبيل المثال(حوافر الخيل في شعر ابن ابي سويد) (المثال للتهكم)؟ علينا أن نطالع العشرات من العناوين المشابهة في الدراسات الأدبية والدينية والاجتماعية والتي تبيض في الصفحات وتنفق عليها الأموال، وتضيق بها قاعات المناقشات، ويكتب عنها الكثير، ولتركن فيما بعد الى الأبد.
إذا أردنا أن نتحدث عن كتب النقد الأدبي المهمة في العراق فلن يطول بنا الحديث، وهي قليلة جداً، وإذا اضطررنا الى تعداد أسماء النقاد، الذين أضافوا للنقدية العربية ما يستحق ذكره فسيقتصر حديثنا على اسماء معدودة جداً، نقول عشرة أو نقول عشرين، لا أكثر، ولا يقتصر الأمر على حقل النقد الأدبي، إنما نتحدث عن عموم مفاصل البحث في الجامعات العراقية، إذا ما علمنا بأن عدد أساتذة الجامعة فيها يتجاوز الـ ( 50) ألف. هل تحقق من ذلك شيء في الاقتصاد والسياسة والاجتماع والعلوم والفنون الأخرى؟ ستكون الإجابة محيرة بكل تأكيد، وهناك ما يؤسف له.
ولكي لا نظلم أحداً فلن نلقي باللائمة على طالب العلم والباحث فيه، إنما ذلك كله بسبب النظام السياسي القائم، الذي جعل من المدرسة والجامعة بآخر سلم عناياته، وذهب بكليته الى تدمير النظام التعليمي على حساب تغليب المؤسسة الدينية والتطرف فيها، دونما ملاحظة او لجم، وترك شيخ القبيلة يتغول ليصبح مؤسسة عسكرية، يتحكم فيها الشقاوات، الذين وجدوا في التنظيمات العسكرية-المليشياوية ملاذهم ومأمنهم، فأسسوا الاقطاعيات واحتموا بالسلاح فاستحوذوا على المال، بعد أن توغلوا في مفاصل هامة في الدولة .. حتى باتت كل مناقصة في النفط والميناء والنقل والصحة ووو لا ترسو عليهم باطلة.
في العراق اليوم، كل شيء على خلاف طبيعته، فقد تغيرت رسائل العقل، وصارت البندقية أقصر الطرق الى الثراء، ولم يعد ما تبحث فيه ذا قيمة عند الكثير، فالجهل يُدام بالجهل، والخوف سيدٌ متحكم، والعالِم العامِل عاطل، منزو لا يطرق بابه إلا اللصوص والقتلة.