ترجمة: خالد خضير الصالحي
كنت متمردة تماماً. وبالنسبة لشخص نشأ على خلفية من الصراع والثورة في بغداد، فإن التمرد كان تحصيلاً حاصلاً، وطريقاً للخلاص،
عمدت على شَعري فجعلته قصيراً مثل صبي عندما كان عمري 14 عاماً. وفي هذا نوع من التساؤل عن الجنس ( انثى/ذكر).
كنت قارئة نهمة لكتب مثل مؤلفات: سارتر، وكافكا، ودخلت واستكشفت عالم الوجودية. كانت معرفة صعبة الاستيعاب، وفي ذات الوقت متناسبة لعقل شابة، ورغم أنني لم أتمكن من فهم هذه النصوص تماماً، لكنها كانت تلبي حاجتي لإيجاد جواب لأسئلتي الملحّة. ومن بينها تأويلي عن الجندر، ولماذا ابتعدت عن كل ما يمت لعالمي كأنثى. ربما كان هذا القلق لازمة لأي طفل أوسط في العائلة، حيث كنت، محصورة بين شقيقتين. ومع ذلك، وعلى الرغم من تلك التحديات، كان والدي متسامحاً جداً معي انا بالذات، ربما، حسبما أعتقد، لأنه كان محامياً ويسارياً.
في سن السادسة عشرة، عملت كرسامة في الصحف العراقية، ولأنني حصلت على راتب؛ فقد تحققت لدي استقلالية اقتصادية، واحترمني والداي أكثر. كانا فخورين برؤية عملي في الصحيفة. لم أكن أرغب في الدراسة، ولم أرغب في الاستماع إلى أي شخص حقًاً. ما عدا رجل واحد: شاكر حسن ال سعيد.
كان اليوم الذي التقيت به: ليس أكاديمياً، بل إبداعياً..
ما زلت أتذكر بوضوح اليوم الذي التقيته فيه. كان ذلك في عام 1973، كان عمري 15 عاماً، وكان عمره 48 عاماً، لكنه بدا أكبر سناً بكثير. عندما أفكر بتلك الأيام، بدا وكأنه في الستينيات من عمره، بشعره الأبيض، ولحيته البيضاء. حتى عندما توفي عن عمر يناهز 75 عاماً 2004، كان يبدو وكأن عمره 90 عاماً. ربما بدا أكبر بسبب طريقة تفكيره، وربطه لهذا بطريقة حياته، وأفكاره، وفنه.
في حضوره في معهد الفنون الجميلة في بغداد، كان شاكر حسن ال سعيد، أستاذ التاريخ الفني يبدو أكثر شيخوخة، لقد أسرنا جميعاً على الفور.
لقد شعرت بتقبله لأفكاري على الفور، كان يبدأ دروسه بأغنية تقليدية (عربية)، ثم يضحك ويناقش الأغنية، وعندها فقط تبدأ المحاضرة. لم يكن يدرسنا بطريقة تقليدية. لم يكن أكاديمياً؛ كان مبدعاً في طريقته في التدريس. لم يعاملنا مثل الأطفال، لقد عاملنا مثلما كنا مثقفين ناضجين. كان لدينا حرية الكلام والتعبير عن أفكارنا. تأثرنا به جميعاً. وكان من المستحيل ألا يكون ذلك.
يتحدث في المحاضرات: عن الحياة، والصوفية، والوجودية، وأخبرته بما قرأته. أعطاني كتباً عن السريالية ( للشاعرة الفرنسية ناتالي ساروت)، ومقال مارتن هيدجر عن الكينونة والزمن، والتي تظاهرت بفهمها فقط لجذب انتباهه. أراد منا أن نستجوب وجودنا. كان شاكر حسن ال سعيد مزيجاً من هذه الأسئلة والقلق. كان مؤسسة. لم يكن هناك مثله في العراق. قال شكسبير ذات مرة: "على الرغم من أن هذا جنون، ولكن هناك منهجاً فيه". ربما كان ما عند شاكر حسن ال سعيد جنوناً، لكنه كان عبقرياً بكل تأكيد.
كانت غرفته تسمى غرفة شاكر حسن آل سعيد. تحدث عن مجموعة بغداد للفن الحديث التي كتب بيانها، وشارك في تأسيسها عام 1951 مع زميله الفنان العراقي جواد سليم. كانت المجموعة عازمة على وضع الفن باعتباره هوية وطنية وضماناً لاندماج التراث والتقاليد العراقية.
"كان يكرر أن الفن يجب أن يكون مغروزاً في الحياة"
يتحدث شاكر حسن ال سعيد عن نفسه، ويرينا أعماله التي تثير تفسيرات لانهائية. كان شغوفاً بالأرشفة - في الواقع كان ذلك هاجساً - لذلك كان هناك الكثير من: المسجلات الصوتية، والمقابلات، والمواد التي قام بتخزينها، ومشاركتها. قال دائماً إن الفن يجب أن يكون حياً. قام بتفصيل ذلك الخط الحساس، الذي يوازن بدقة بين الفن والحياة، وعلّمني كيف أعيش ذلك وأمارسه. لقد زرع في نفسي قدرتي على الكتابة، والتحدث بحرية.
لا أتذكر كلماته الدقيقة عن فني، لكنني أعلم أنه يعجبه. قام بكتابة مقدمة الكتالوج الخاص بمعرضي الشخصي الأول في مركز صدام للفنون في بغداد عام 1991. وفي عام 1997، طلب مني المشاركة في عرض جماعي كان يقيمه في المتحف الوطني في عمان. كما أعطاني بعض أعماله الفنية.
للأسف، وبسبب الوضع الاقتصادي في العراق (الحصار في التسعينيات) ، اضطررت لبيع بعضها لإعالة أسرتي. الناس الذين اشتروا تلك الأعمال كانوا على استعداد لارجاعها وبدون مقابل. بمعنى أنني أستطيع استعادتها.
ثم أكملت درجة البكالوريوس عام 1988، ثم الماجستير عام 2000 في الرسم بأكاديمية الفنون الجميلة ببغداد، وأنا بصراحة لا أستطيع أن أدعي أنني فهمت فلسفات شاكر حسن ال سعيد بالكامل بحلول ذلك الوقت، وخاصة نظرية "البعد الواحد" إلا عندما بدات البحث في رسالتي في الدكتوراه المعنونة ( النظم المنطقية لفن الرسم/ 2005 ) وبها أدركت بوضوح فحوى الحوار الذي تطرحه نظرية البعد الواحد. لديّ رسائله، ومذكراته اليومية، وهي مخطوطات بخط يده، وهي مشروعي القدم للنشر.