دُنى غالي
نتأمل موج البحر حين يلامس رمل الشاطئ، كيف ينسحب، وكيف يخلّف الزبد بانسحابه! الزبد هو اللاشيء الذي يتركه هذا البحر العملاق، بصخبه و بهدوئه. هذا الإعلان الخفي المرهف الهامس هو إعلان عن الخواء!
لم تتقبّل حورية البحر طبيعتها! بمجرد لقائها بالكائن البشري المختلف شعرت أنها من أجل أن تناله عليها أن تمنح ما أمكن من جسدها وروحها، ذلك هو شرط تحقق حلمها. الحورية الأصغر سنّا من بين ست أخوات، والأجمل بينهن ستمرّ بسلسلة من الاختبارات التي تنتهي بمجازفتها بحياتها. اختيارها هذا الشيء المغاير! شوقها المضني ومعاناتها كل ذلك الوقت كان بدافع تلك الرغبة العميقة للتأقلم مع المختلف، وهو كما أُثبِتَ من المستحيلات.
في أول صعود لها إلى اليابسة وبعد انتظار مرير شقي، يؤسرُها ما تراه على الأرض حتى انها لا تشعر بالعاصفة قادمة والبحر يهيج ويموجُ من تحتها.
أنقذته من الغرق بجنوح سفينته!
فُتِنَت بالأمير وباليابسة ولكنه لم يلتفت إليها، شغلته المدينة والحياة التي كانت هي مَن أعادتها إليه. ضحّت بلسانها وصارت خرساء مقابل حصولها على قدمين تسيران عليهما ككل نساء اليابسة، وإن كان ألم المشي كمثل السير على كسر الزجاج!
كان عليها أن تملك روحاً خالدة لايملكها غير البشر، والمجازفة من أجله لم تقتصر على ما أجرته قسراً من تحولات، وفي تخلّيها أيضاً عن أهلها، فإن لم يحبها الأمير حينها وإن لم يتزوجها بطلوع الشمس ستموت. ستنتهي حياتها، تلك هي اللعنة التي لحقتها!
في نهاية المطاف انقضت المهلة ولم يقع الأمير في حبها، فسقطت في البحر!
عامت ولابد للحظات في سكينة وراحة، تحولت من بعدها إلى فقاعة صعدت إلى السماء
كان لديها فرصة أن تنقذ حياتها بقتل الأمير ولكنها لم تجرؤ على فعل ذلك. ألقت بالسكين التي تدبّر الأخوات أمر الحصول عليها لإبطال تلك اللعنة.
نهاية هذه الحكاية الخارقة، التي وضعها ه. أ. أندرسن ملك الحكايات الخرافية لم تُقنِع الكثيرين. ارتفعت الحورية إلى عالم الأرواح الأثيرية وبفعل الأعمال الحسنة مكنّها الكاتب من الحصول على الروح الخالدة.
وجدَها البعض نهايةً مفبركة أخذت طابعها الديني في اللحظة الأخيرة من كتابتها. في المقابل هذه النهاية الحزينة لم تعجب شركة انتاج أفلام ديزني كذلك؛ حالة الحب من طرف واحد، الحب الذي لم يكن متبادلاً، بالإضافة إلى كل التضحيات التي قدّمتها الحورية من أجل الأمير ولم تنل قلبه. لهذا كلّه اقترحت ديزني كعادتها على الأطفال نهاية من تلك النهايات السعيدة.
ولكن ألم يكن لأندرسن من خيار غير أن يحوّلها إلى فقاعة!
حين صعدت الشمس في الأفق أنقذتها الملائكة لأنها لم تقتل الأمير ومنحتها بالمقابل روحا خالدة مكافأة للخير الذي يسكنها! تراه استمعَ إلى دردمة البحر وتتبّع إثر انسحابه؟
القصة قد جسّدت حياته في جزء كبير منها. استعرضَت معاناته هو ذاته بعدم الاعتراف به، وبحبّه المستحيل. يُذكر إن أندرسن كتب هذه الحكاية بعد سماعه بزواج صديقِه الذي أحبّه، والذي لم يخبره بأمر زواجه مخافة أن يُقدِم أندرسن على تصرف ما غير مقبول.
كان النقاش ومازال حول ميول أندرسن الجنسية. عدا علاقته مع شباب عدة، عاش أندرسن علاقتي حب فاشلتين مع امرأتين تزوجتا من غيره. الفقر جعله يشعر بالمهانة وحلم محاربته بقي على صعيد حياته الشخصية شيئاً أساسياً؛ أن يكون كاتباً معروفاً وغنياً!
الفقاعة التي حررّتها من عذاباتها في الختام ومنَحتها حرية عناق السماء أمام اللّجة التي دخلت فيها في خضم عراكها من أجل أن تنال حبيبها ترسم مشهد فراق أخّاذ مُدهش، اختارته هي ليكون حلا للمأزق الذي وُضِعَت فيه. كان بإمكانها قتل هذا الحبّ والعودة إلى حياتها، ولكنها لم تفعل ذلك. اختارت شيئاً هو ما بين الحياة والموت.
الفراق المحزن لليابسة من قبل الموجة، هو ذاته ونحن نتأمل صعودها البطيء فقاعةً فوق الغيمة الوردية التي أبحرت صوب السماء! ولكنه أيضا فراق موشى بالتخفّف من عذاب ذلك الحب، تلك الرقصة الأسطورية التي كانت تود أن تثبت له من خلالها وجودها الطبيعي في حياته.
وكل خطوة كان لها جرحها!
بدا البحر الفسيح سجناً لها، وحريتها هي في اليابسة. روحها لم تستكن أو تهدأ، أصابها الشرخ البشري، ما بين أن تألف ما حولها وأن تنقلب ضد نفسها. الاشتياق والحنين كانا كبيرين إلى المختلف، إلى اللاممكن، أو المستحيل الذي جعلها متشظية متناثرة، بين أن تكون من البشر، في الأعلى، وبين أن تعود حورية تعيش مثل بنات جنسها، تحت في الأسفل، حورية كما كانت.
ما بين اليابسة والبحر، يلتقيان، يمسّان بعضهما، يلتحمان ويفترقان، أيهما الممتليء وأيهما الفارغ، أيهما الحضن الأكثر احتواءً وأيهما الهاوية!
هذا البحر الهائل لم يسعها، قيلَ سجن مفتوح وقيلَ مقبرة، أو لعله لَفَظَها لعنفوانها، أو انه كان مُنصتا فأودَعَها بحنان إلى شاطئ نزولاً عند رغبتها، في أن تنطلق لامحالة في العالم الآخر.
انتهت تلك الدردمة بينهما إلى اللاشيء بغفلة عنها. أدركت استحالة اقتحامِه، بينما كانت تشعر بجسدها يذوب ويصير رغوة.
حورية البحر الصغيرة، كتاب "هانس كريستيان أندرسن – قصص وحكايات خرافية". ت. دنى غالي. دار المدى 2006.