موج يوسف
ظلتْ لفظةُ الثقافة مُحلقة في فضاءات متنوعة بين الفن والمجتمع والسياسية ولم تستقر في ركنٍ معين ، بل بقيت في الآفق المفتوحة لتنهل عليها الدراسات والبحوث والنقاشات الطويلة.
وكتاب الثقافة للمؤلف تيري إيغلتن الصادر عن دار المدى في بغداد ترجمة لطفية الدليمي ، قدم فكرة الثقافة بهيئة متلونة تصلح لكلِّ تقلبات العصور والأفكار وقد أخرج هذه المفردة من بحر السجالات العائمة ووضعها في فضاء الفكر والفلسفة وعلم النفس لكنّ قبل الدخول في غِمرة نقاشات الكتاب نشير إلى أن المترجمة لطفية الدليمي قد قامت بترجمة حوار للمفكر ايغلتن أجراه معه ديفييد ايبوني ونُشر في المطبوعة التي تصدر عن جامعة بيل الاميركية وهذا الحوار يوضح بعض القضايا الثقافية عند المفكر بشكلٍ موجزٍ . يتألف الكتاب من فصولٍ عدةٍ فكان الأول بعنوان ( الثقافة والحضارة) ، فعلق على المفردة بأنها تحمل في معانٍ متعددة رئيسة منها( تراكماً في العمل الفني والذهني والصيرورة التي يحصل بها الارتقاء الروحاني والذهني ، والقيم والعادات والتقاليد والممارسات الرمزية ، والطريقة الكلية في الحياة) (ص 35) وهذا يشير أن جميع طرق الحياة التي يعيشها الإنسان هي ثقافة . يطرح في الفصل ذاته آراء النقاد والفلاسفة في تعريفهم للثقافة ولاسيما إليوت الذي رأى بأنها كلّ الفعاليات والاهتمامات المميزة لشعب ما وهنا يفتح ايغلتن نقاشاً لمحور الفصل الأساس (الثقافة والحضارة) وهذا جوهر الفصل فيورد أطروحات الباحثين والمفكرين منهم صامويل تايلور الذي يرى أن الثقافة في سياق الرفعة الأخلاقية باعتبارها أمراً جوهرياً اكثر اهمية من الحضارة ، لكنّ الحقيقة أن الثقافة منتج تخلقه الحضارة ذاتها التي تسعى الثقافة لخلع قواعد المتنانة الروحية . بينما نلحظ أن إدوراد برنيت تايلور يرى أنهما المركب المعقد الذي يحتوي المعرفة والمعتقد والفن ، والأخلاق والقانون . في حين أن المؤلف يجنح إلى الأدب وذائقته النقدية فيعرض قصائد شعرية منها للشاعر جيمس بأي ( ارتقاء الكياسة) في عبارة يقف عندها ( الافريقي الأسود لا يعزز ارتقاء أي ثقافة) فيرى المفكر أن هذه العبارة تنطوي على نبرة تقييمية تعني أن الأفارقة لديهم ثقافة السياق الذي يفيد بكونها شكلاً من أشكال الحياة . وبعرض رأي روبرت جي سي يونغ حول جوهر الفصل فيشير الأخير أن ( مفهوم الثقافة تطور ليكون مترادفاً مع تيار الحضارة الغربية ، والثقافة بهذا السياق كانت الحضارة ونقد الحضارة معاً ) ص156 . وعند تعمقنا في القراءة نجد أن المؤلف يورد ارتباط الحياة بالثقافة بشكل فلسفي فيقول ( فإن ما يجعل الحياة تستحق العيش في الغذاء والشراب مثلاً مطلب أساس من الناحية البيولوجية .. لكن في حقيقة الأمر أن كسرة خبز عتيقة وشربة ماء متواضعة قادرتين على إدامة الحياة) ص 165 بقدر ما يحمل هذا المعنى من فلسفة لكنه يدخلنا في التصوّف في أبيات قالها الشاعر العباسي ابو العتاهية حملت ذات المعنى : رغيفُ خبزٍ يابسٍ تأكله في زاوية وكوز ماء بارد تشربه في صافية الى آخر القصيدة . لا نستطيع أن نجزم بأن الأبيات قد ترجمت لكن نرى أن توافق الأفكار قد جعل المؤلف يعبر بهذه الاطروحة ويبدو أنها ملخص لتجارب عدة . إنحيازات ما بعد الحداثة عنوان الفصل الثاني ويكمن في قالب جوهري يصقل فيه المؤلف فكرة تعدد الثقافات التي ركزت عليها ما بعد الحداثة التي جات لتعلي من شأن المهمشين والأقليات والاختلافات والتهجين الثقافي وتعدد الهويات ثم يصهر عبارات لشعراء انكليز منهم كيجرارد مائلي وهوبكز والشاعر لويس ماكنيس في صميم التجربة الثقافية التي تهتم في قضايا الحياة ويرى أن ( الثقافات كيانات قائمة بذاتها ولا ينبغي رؤيتها واعتبارها مؤسسة على شيء أكثر جوهرية وأهمية من بعض المفاهيم القائمة والمكتفية بذاتها مثل لله والروح والمادة والطبيعة البشرية وقوة الحياة .. ص 193 )وهذه الثقافات بهذا المعنى السياقي الواسع أمر حاسم وضروري لوجود الإنسان البيولوجي وهذه أنساق ثقافية كشفت عنها ما بعد الحداثة ويعلق ايغلتن أن الأخيرة قد انحازت نحو ممارسات ثقافية التي طالما رأها سخيفة واستمد حجته على بذلك بما وجده في اطروحات فيغنشتاين . في أطروحته لموضوعة ( اللاوعي الاجتماعي) وقعت في الفصل الثالث فقد رأى أن اللاوعي الاجتماعي هو أحد الأشكال التي تعني بها مفردة الثقافة وصميم هذا الفصل دخل في عمق علم النفس عند لاكان وما سبقه به فرويد ثم يعرج إلى أطروحات ماركس الاجتماعية في كتابه (رأس المال) الذي يرى الأخير أن الفعاليات الحيوية الاجتماعية تجري وقائعها خلف ظهور الأفراد الموكلين بها . وهذا جعل المؤلف يدخل في غمار الايديولوجيا وارتباطها بالثقافة في حين أن الايديولوجيا أمر مختلف عن الثقافة لأنها تشير إلى القيم والممارسات الرمزية التي يراد تحنيطها في مفصل زمني محدد ضمن سياق الحفاظ على استمرارية السلطة السياسية لكن الرابط بين الأطروحتين هي الوظيفة . وقادته زوبعة أفكاره إلى الدخول في إشكالية الثقافة والسياسة وأشار أنه لا ينبغي فصلهما قسراً مثلما لا ينبغي جعلهما تركيباً مدمجاً . كذلك ذهب المفكر إيغلتن إلى اللغة التي تنتقل عبر اللاوعي ومدى ارتباطها بالثقافة إذ عبّر عنها بأنها العنصر الحاسم في القضايا البشرية . بينما يبعث تيري في الفصل الرابع ب( رسول الثقافة) هكذا عنون الفصل وعرض فيها قضايا الجمال والمحاكاة والفن في أطروحات ( أدموند برك) و( أوسكار وايلد) المهووسان بفكرة الفن وعلم الجمال ولاسيما الأول صاحب المقالة المشهورة في علم الجمال التي تناول فيها السياسية وارتبط عنده الفن او الأدب بالسياسية ، أما وايلد فعمل على تكريس بحثه الخاص نحو الفن بذاته ولذاته وبهذا يشير ايغلتن إلى أن الأدب الفن الذي يرتبط بايديولوجيا يدخل في السياسية والسلطة وبهذا يبتعد عن الجمال والمعنى الحقيقي للفن ويخدم السلطات أما النوع الاخر الفن والادب لذاته اي يعبر عن الجمال ووظيفته الحقيقة ويرى أن الفن المتحرر من الاشتراكية والأيدلوجية هو منتج للجمال وحيثما يسود هذا الفن تسود الإنسانية . وفي الفصل الخامس ( من هيردير إلى هوليوود ) يطرح فكرة الثقافة في ظل الاستعمار والانثروبولوجيا التي أصبحت محوراً في المناظرات العنيفة والثقافة ذاتها رأى الفلاسفة والباحثين أنها خدمت كبديل عن الدين فيشير ايغلتن أن لهذه الموضوعة دراسة مفصلة عنده بعنوان الثقافة وموت الإله ـــ وهذا الكتاب سنتناوله في مقالة قادمةــــــ والتي رأى أن البدائل الثقافية التي حلت محل الدين او الإله في القرن العشرين منها الفن والروح والعقل بدائل فاشلة أن تحل محل الإله ولم تستطع أن تملي تلك الفجوة ، ويعرض آراء النقاد الادبيين في القرن العشرين ومنهم ليفز الذي يرى أن الأدب في حقيقته يمكن أن يكون بديلا عن الدين ، وريشاردز الذي أعلن إن الشعر يملك القدرة على إنقاذ أرواحنا . إيغلتن في أطروحاته عن المألوف ففي خاتمته عنوانها بـ غطرسة الثقافة وحطت رحال أفكاره إلى الأدب الذي تقوقع في الدوائر الاكاديمية فغدت دراسة الأعمال الأدبية مسعى هامشياً .