ثائر صالح
كانت الأميرة ترقص فرحة في الغابة، فجأة رأت دبًا يقلد رقصتها فارتاعت. لكنها اطمأنت وهدأت بعدما تيقنت أن الدب لا ينوي بها شرًا بل يود التقرب من الأميرة.
راقت لها رقصة الدب، فراقصته وإذا به يتحول الى أمير شاب ووسيم. هذا ما شاع عن "برنامج" عمل المؤلف الألماني ريشارد شتراوس (1864 – 1949) كونشرتينو ثنائي في فا الكبير للكلارينيت والباسون مع أوركسترا وترية وهارب الذي ألفه في 1946/1947 بعد أن تجاوز الثمانين من عمره. لكن الأمر ليس بهذه البساطة أو بالأحرى التبسيط، فقد كتب في رسالة لصديقه هوغو بورغهاوزر عازف الباسون في فرقة فيينا الفيلهارمونية الذي هاجر الى الولايات المتحدة عن موضوع الأميرة والدب مازحًا بالفعل. لكن الكونشرتينو أعقد من ذلك، بالتأكيد يحمل بعض العناصر من قصة الحسناء والوحش (من تأليف الكاتبة الفرنسية غابريل-سوزان باربو دو فيلنوف 1740). فالكلارينيت الذي يرمز للأميرة يرقص بالأنغام في الجزء الأول من العمل بكل رشاقة وأناقة لكنه يرتاع بالفعل لدخول الباسون. لم يكن الرقص منسجمًا في البداية بسبب إيقاع الباسون الذي اختلف عن الإيقاع الذي سار عليه الكلارينيت في تصوير لثقل خطوات الدب الذي تنقصه الحذاقة وكأنه يفشل في الانسجام مع رقص الأميرة وإيقاع الكلارينيت، لذا بقي الأمر بحدود الفعل ورد الفعل. الحركة البطيئة تبدأ بعبارة جميلة منفردة وطويلة للباسون، بمثابة دعوة للصداقة تتقبلها الكلارينيت فيبدأ بعدها الأداء المشترك للأداتين. أما الحركة الثالثة الطويلة فهي مهرجان موسيقي للرقص المشترك، بحيث تبادل الكلارينيت والباسون الألحان المميزة لكل منها (لايتموتيف بحسب التعبير الفاغنري، وهو اللحن المميز الدال على حدث ما أو شخصية من شخوص أعماله الدرامية) في دلالة رمزية.
البعد الآخر الذي تخفى وراء القصة والذي يراه في هذا العمل بعض الباحثين يتعلق بتاريخ شتراوس وعلاقته العابرة بالنازية واستخلاص العبر من الحرب العالمية الثانية التي انتهت للتو. فقد تعاون بشكل محدود معهم بين 1933 – 1935 عبر رئاسته لمعهد موسيقى الامبراطورية، وبسبب ذلك تعرض للمساءلة بعد الحرب دون أن تثبت عليه مثلبة في الختام. وكان شتراوس قد كتب الى شتيفان تسفايغ في 1935: "هل تعتقد أن "المانيتي" هي من حددت كل أعمالي؟ وهل كان موتسارت آريًا عند كتابته الموسيقى؟ بالنسبة لي هناك نوعان من الناس، من يمتلك الموهبة، ومن لا يمتلكها". وقد وقعت الرسالة بيد الغستابو وأوصلها لهتلر الذي أمر بطرده من رئاسة المعهد الذي اخذ على عاتقه دعم الموسيقى الألمانية الجيدة التي يؤلفها الألمان الآريون. هناك تكهنات بصدد رمزية القصة والدعوة لنبذ الاحكام المسبقة ولقبول الآخر التي عبر عنها بالتقارب بين الأميرة والدب واعتبارها قياسًا على التعاون بين المجتمعات المختلفة والقبول بالاختلاف بدلًا عن بث الكراهية في مواجهة الاختلاف، مما يؤدي الى الحروب والمآسي. اعتكف شتراوس خلال سنوات الحرب الثانية بعد تقديم اوبرا كابريشيو في 1941 وأمضى وقته في قراءة غوته وكتابات فاغنر، وفي 1945 قدم عمله الشهير "التحولات" (Metamorphosen) الذي يعد أحد أكثر الأعمال الموسيقية حزنًا وهو انعكاس لحالة الكآبة التي عاناها خلال سنوات الحرب، الكآبة التي فاقمها دمار دريسدن الهائل وغير المبرر الذي سببته الطائرات البريطانية والأمريكية في شباط 1945.