لطفية الدليمي
يخبرنا الروائي إج. جي. ويلز في روايته الشهيرة (آلة الزمن) عن يوم سيندهش فيه البشر المستقبليون البُلَهاء من رؤية الكتب ويحارون في معنى هذه الأشياء المفتتة المكدسة في القاعات الكبيرة المهجورة، سيعبثون بها وينثرونها ويسحقونها بأقدامهم الحافية وتبرز بعض عناوين الكتب الخالدة بين النثار المهان.
إنه لمشهد حزين يسدل ستارًا من الظلمات على تأريخ نتاج الفكر البشري وابداعاته، قد يحدث هذا بوجود بقايا البشر؛ ولكن ما الذي سيحدث عندما يختفي البشر أنفسهم مع كامل حضارتهم؟ يتضمن هذا السؤال فرضية صادمة عن كوكب الأرض بعد انقراض البشر وعندما لاتتبقى سوى أنقاض الحضارة الجامحة التي تسببت بفنائهم.
قبل ثلاثة أعوام نشرت صحيفة التايمس اللندنية تقريرًا يحاول الإجابة على هذا السؤال بأرقام افترضها علماء وباحثون في البيئة وعلم المستقبليات. نعلم أن جميع ما وجد على الأرض من غابات وكائنات باهرة الجمال وجبال ووديان وشلالات وكل الكائنات الحية في المحيطات والبراري كانت موجودة قبل البشر بملايين الأعوام؛ فهي لم تنوجد لأجلنا كما يتوهم البعض أو تخبرنا بعض الأساطير، وقد اجتهد الإنسان مذ وُجِدَ ليطور حياته وييسر سبل العيش باختراعات وابتكارات توالت طوال العصور، واستطاع الإنسان الأول العاقل باكتشافه النار أن يسخر كثيرًا من قوى الطبيعة لحاجاته البدائية، وعلى مدى العصور الحضارية التي بدأت قبل 12 ألف سنة تقريبًا باكتشاف الزراعة واختراع العجلة، تراكمت المعطيات الحضارية وظهرت مواثل ومبانٍ ومعابد وهياكل عظمى، وطور الإنسان أساليب الري ووسائط النقل فعرف السفر والتجارة وتبادل السلع وصولًا إلى عصر الثورة الصناعية وعصر المعلوماتية وعصر الذكاء الاصطناعي الذي نعيش تباشيره اليوم.
ظهرت فكرة انقراض البشر والرؤى القيامية في بعض النصوص الأسطورية والدينية كعقاب لخطايا اقترفها بعض البشر، مثلما ظهرت في بعض المدونات المنذرة بالفناء النووي؛ غير أن الانسان لم يخلد إلى السكينة والقنوط ولم يتوقف عن الابتكار ومواصلة الاختراعات العظيمة وإبداع الفنون وتيسير حياته بوسائل طبعت عصرنا الراهن واستطاع أن يحوّل الخوف من النهايات المهددة إلى إنجازات في العمارة والفنون مثلما حاول طرح أسئلة الوجود عبر مؤلفات فلسفية ونصوص ملحمية ليخلد صنائع فكره وفنه على وجه الكوكب.
ردًا على تساؤل صحيفة التايمس عن انقراض البشرية يخبرنا المختصون بأن الأرض ستكون بخير عندما يختفي الإنسان، ويضيفون أن الأرض ستستعيد عافيتها؛ ولكن ماجدوى كوكب معافى بدون شهود من البشر؟
بعد فنائنا المفترض ستعود الكائنات المهددة بالإنقراض إلى مستوياتها الطبيعية، وبعد 24 إلى 48 ساعة سينتهي التلوث الضوئي، وبعد ثلاثة شهور ينخفض تلوث الهواء في الكوكب الخاوي، وبعد عشرين سنة من اختفاء جنسنا ستزحف الغابات والنباتات على القرى والطرق وتخفيها، وبعد 50 عامًا سيعود مخزون الأسماك إلى وضعه الطبيعي في المحيطات، وفي الفترة ما بين 50 إلى 100 سنة من اختفاء البشر ستزحف الغابات والنباتات البرية على المدن الكبرى والطرق السريعة وتدمرها وستنهار المباني الخشبية، وخلال الفترة ما بين 100 إلى 200 سنة ستنهار الجسور، وبعد 200 سنة ستنهار المباني الزجاجية والمعدنية والسدود، وبعد ألف سنة ستنهار مباني الإسمنت والحجارة وستعود نسبة الكربون في الجو إلى معدلاتها، وبعد خمسين ألف سنة ستختفي كل آثار البشر.
إنّ ما أتخيله ولم تذكره الإحصائيات الصماء أن المكتبات ستختفي بكنوزها من الكتب وستنخر الأرضة والرطوبة الآلات الموسيقية واللوحات الفنية وستتآكل التماثيل الخشبية في المعابد وستتلف الحرارة الحواسيب والآلات الألكترونية، ولنا أن نتخيل أي هدوء مخيف سيحيق بالأرض التي ستشتاق لخطوة طفل وترنيمة شجية ولحن موزارتي ينعش زمنها الموحش.