ستار كاووش
دخل مرسمي بتمهل وهو ينقل خطاه بهدوءٍ ورويَّة، تصحبه امرأتان جميلتان جدًا، وحين اقتربَ مني عَلَتْ وجهه ابتسامة متحفظة ومَدَّ لي يده معرفًا بنفسه (أنا السيد جون كورديل)،
رحبتُ بالثلاثة، وأنا أنظر الى هذا الرجل الذي تجاوز الخامسة والسبعين من العمر كما أنظر الى ممثل سينمائي عجوز بشعره اللامع الذي يبدو كأنه صففه تواً بـ(كريمبريل) وملابسه الكلاسيكية التي ذكرتني بلاعبي الغولف الأثرياء كبار السن، تضافُ الى ذلك نبرة كلامه التي أعادتني الى العوائل العريقة في مدينة لاهاي، كل ذلك امتزج بطريقة تأمله للوحات وحديثه عنها. أحضرت القهوة، حيث مضت السيدتان تتنقلان بغنج مثل فراشتين في أرجاء المرسم، بينما أسهبَ كورديل في النظر الى لوحة صغيرة متسائلًا (هل رسمت هذا الجزء من اللوحة بجهاز الايربرش؟) فأجبته بالنفي وأنا أمسك بواحدة من فرش الرسم، موضحًا بأني قد رسمت اللوحة كلها بالفرشاة. بعد حديث قصير أعطاني كارته الشخصي متمنيًا لقاءات قادمة لرؤية لوحات جديدة لي. وأثناء خروجهم، وبعد أن اجتازت السيدتان عتبة الباب، استدار كورديل برويَّة، وعاد بإتجاهي مشيرًا الـى لوحة تظهر فيها امرأة شاردة، هامسًا (لوحة رائعة، لكن لماذا جعلت أصابع المرأة بهذه النحافة، الرجال يحبونها ممتلئة) قبل أن ترتسم على وجهه ابتسامة ماكرة.
حدث ذلك قبل عشرين سنة تقريبًا حين زار كورديل مرسمي أول مرة، لأعرف بأنه صاحب غاليري (غرينويتش فيلج) في مدينة لاغراس جنوبي فرنسا، كما كان صاحب غاليري يحمل ذات الاسم في نيويورك وأمستردام. رجل قصير القامة يحمل حساسية خاصة للتقرب من النساء وكذلك اللوحات التي يمكن أن تباع. يحب أن تصاحبه نساء جميلات تبدو عليهن مظاهر الغنى، وفوق هذا يجيد الكلام المنمق الجميل، لكنه لا يخلو من مكر، ولديه خبرة كبيرة وطرق خاصة للمضي في استدراج الزبائن لأجل شراء اللوحات، فهو يعرف كيف يلتقط الشخص المهتم بلوحة معينة، فيتظاهر حينها بأن هناك أكثر من زبون مهتم بها لأنها في غاية الجمال والتفرد، ويسهب في الحديث عن تقنيتها وحياة رسامها الذي سترتفع قيمة لوحاته في الايام القادمة.
في أحيان كثيرة كنتُ أغلق باب المرسم وأذهب لزيارة هذا المعرض أو ذاك الغاليري في مقاطعة درينته التي عشت فيها أكثر من عشر سنوات، وهناك كنت أرى كورديل الذي كان يحرص على الحضور قبل الافتتاحات، ليأخذ مكانه في الباحات الخارجية في حدائق الغاليرهات، تحيط به نساء جميلات، أحييه كالعادة، وأشرب بصحبته احيانًا قدح نبيذ، ثم أمضي لمشاهدة المعرض وأنا أردد مع نفسي (هكذا عرفتك، وستبقى حتى آخر يوم في حياتك، تهوى أجواء الرفاهية وتغويك النساء المخمليات).
عاش كورديل سنوات طويلة من حياته في خمسينيات القرن الماضي بين نيويورك وأمستردام وباريس وربطته صداقات كثيرة مع رسامين مشاهير أمثال جاكسون بولوك ووليم دي كوننغ وغيرهم من فناني التجريدية التعبيرية الأمريكية، كذلك كانت له علاقات واسعة مع الكثير من الممثلاث والممثلين المعروفين، وباعتباره أيضًا عازف جاز محترف قضى طوال حياته يعزف على آلة التشيلو لذا ربطته علاقات كثيرة مع عازفي ومغني الجاز الأمريكان مثل أيرول غارنر ونات كنغ كول وليونيل هامبتون والكثيرين غيرهم.
زارني في المرسم مرات عديدة، وحتى بعد انتقالي الى مدينة هوخفين تكررت زياراته لي، وقام بعرض مجموعة من لوحاتي في الغاليري الذي يملكه بمدينة لاغراس الفرنسية، ولم يكتف ببيع بعض أعمالي بل اشترى قسمًا منها ايضًا. احتفل كورديل قبل أيام بميلاده السابع والتسعين صحبة الأهل وبعض الاصدقاء، وهو مازال متحمسًا للحياة وما تخبئه من جمال ومفاجآت. لكن تقدمه في العمر لم يمنعه بكل الأحوال من الانشغال بالفن والتفكير باللوحات والموسيقى التي غمرت كل حياته، وكذلك لم يقف عمره المديد حائلًا أمامه وهو يسترق النظر خلسة لامرأة جميلة تخطر أمامه، لعله يسترد من خلالها سحر أيامه الخوالي ويستعيد معها ليالي أمستردام الخالدة.