شكيب كاظم
إن المتابع المتفحص للمشهد الروائي العربي، يلمس توجها محموما نحو كتابة الرواية التاريخية، ولقد تعددت الأسباب في التوجه هذا، منها هامش الحرية الضيق في البلدان العربية،
إذ حاول الروائي سلوك هذا المسلك كي يتخلص من عين الرقيب المتلصصة على نصوصه، ومن ثم كي ينجو بنفسه من المساءلة. لكن ما الذي دفع بروائي مهم هو نجيب محفوظ، أن يدشن عهده الروائي بهذه الروايات الثلاث (عبث الأقدار) و(رادوبيس) و(كفاح طيبة)، التي استوحت التاريخ الفرعوني المصري، مع أن مصر كانت وقتذاك تحيا هامشا مقبولا من الحرية الإبداعية والبحثية، أنتجت ذاك الجيل الباحث عن الحقيقة، لا بل الجيل المشاكس: طه حسين، وعلي عبد الرازق، والدكتور محمد حسين هيكل و، و. ترى هل كانت هذه الروايات التاريخية المحفوظية تمرينا على ولوج عالم الرواية؟
ولقد شهدت السنوات أو العقود التي تلت تلك الباكورة الروائية المحفوظية، تصاعدا في الإندلاق الروائي التاريخي، فكتب معظم الروائيين العرب في هذا اللون، ترى هل نحن نعاني موجات أو (موضات)؟ فما أن يدلو واحدنا بدلوه، حتى نجد الدلاء قد أدليت في الموقع ذاته واللون عينه، فكتب الروائي المصري إدوار الخراط روايته، (أضلاع الصحراء) التي تستوحي أيام الحرب الصليبية، وتحديداً أواخر أعوام العهد الأيوبي؛ أيام ( الملك الصالح) وزوجته (شجرة الدر)، والحملة التي قادها الملك الفرنسي لويس التاسع لاحتلال مصر، والتي طرد منها شر طردة، وتعاون مسلمو مصر وأقباطها في محاربته وهزيمته، فضلا عن رواية (السائرون نياما) لسعد مكاوي، و(الزيني بركات) لجمال الغيطاني، الذي سيقلب الآية في عمله (أوراق شاب عاش منذ ألف عام) فهو إذ استوحى التاريخ الماضي في (الزيني بركات)، فإنه يجعل من قصته هذه مخيالاً واستقراء لما سيحدث بعد ألف عام، إذ يعثر المنقبون على أوراق كتبت منذ ألف عام، أثناء الحرب التي نشبت في تلك الأحقاب البعيدة، بين أجدادنا على ضفاف النيل وبين دويلة صغيرة، لم تصلنا غير معلومات ضئيلة عنها، وكانت تسمى إسرائيل، لكن من المعروف أن هذه الدويلة قد اختفت تماماً بعد ذلك وضاعت أخبارها نهائياً. تنظر الصفحة 7 من المجموعة القصصية (أوراق شاب عاش منذ ألف عام) للروائي المصري جمال الغيطاني. طبعة دار الشؤون الثقافية العامة- بغداد. سنة 1987.
كما كتب الروائي الراحل إسماعيل فهد إسماعيل روايته ( النيل يجري شمالا) التي تسرد وقائع غزوة نابليون بونابرت الفاشلة لمصر سنة 1799، وتاريخ عبد الرحمن الجبرتي تحديداً.
إن اتكاء عاليا على حوادث التاريخ يدفعنا للتساؤل، هل نحن إزاء كتابة تاريخية أم كتابة إبداعية؟ وأين الحد الفاصل بينهما؟ والأمر ينسحب على الكتابة الروائية التي تستند على سرد لحيوات شخوص، وقد تتحول إلى سرد تسجيلي توثيقي، كما فعل الروائي الجزائري (واسيني الأعرج) وهو يسرد علينا وقائع حياة الأديبة الراحلة ماري الياس زخور زيادة، المعروفة باسم (مي زيادة)، ومن قبلها حياة الأمير المجاهد ضد الاستعمار الفرنسي، عبد القادر الجزائري في روايته (كتاب الأمير)، لا بل إن الروائي المغربي بن سالم حميش، يعيد صياغة حياة ابن خلدون، وابن سبعين في روايته (هذا الأندلسي)، فضلاً عن الحاكم بأمر الله الفاطمي في روايته (مجنون الحكم)، ولن أتحدث عن عديد الروايات السياسية التسجيلية، التي كتبها أدباء عراقيون، عن أحد القادة العراقيين السابقين، وسأورد مثلا واحدا، هو ما كتبه الروائي العراقي الذي رحل سراعاً، وهو في عز شبابه؛ عادل عبد الجبار في روايته (الزمن الصعب) وروايته الحربية التوثيقية الأخرى (الرقص على أكتاف الموت).
هذا اللون التاريخي التسجيلي، قد أدى إلى إضمار التشويق لدى القارئ والمتلقي وضموره، لا بل كاد يتلاشى، وهو يقرأ حوادث عاشها، أو كان قريباً منها ويعرفها، مفهوم التشويق المهم في العملية الإبداعية، أن تستطيع الإمساك بزمام القارئ، يأتي من شرارة الموهبة، ومن الخيال المجنح عالياً، للروائي الذي يبتكر الحوادث والسرود، مع تطعيمها بصور من الواقع المعاش أو المعيش، وهذا هو الفارق العظيم والواضح بين المبدع، وبين المؤرخ، أو كاتب التاريخ.
وما اكتفى عديد الروائيين العرب، ومنهم العراقيون بكتابة الرواية التاريخية، فضلاً عن الرواية التي تستوحي حيوات الشخوص، وتتكئ عليها، فإنهم لجأوا- كذلك- إلى الامتياح من حياتهم الشخصية، وقد لا اعدو الحقيقة إذا قلت، إن الروائي لا يمكن أن يقصي حياته الذاتية وتجاربه من عمله الروائي أبداً، من هنا يتبين سخف مقولة موت المؤلف، أو الكتابة بدرجة الصفر، وإن النص، أي نص إنما هو ملك القارئ الذي يعيد تفكيكه بعد قراءته، وتنتهي علاقة مبدعه به ساعة يضعه بين يدي القارئ، لكن أن يأتي السرد الروائي معتمداً كلية على شخص الروائي فهذا مؤشر خطر وخطير على نضوب المواهب، وضمور قرائح المبدعين، وهل نصنف هذه الكتابة ونعدها رواية، أم نبوبها في ضمن حقل المذكرات، أو كتابة السيرة الذاتية؟ وكيف يمكننا تحديد الفاصل الواهي بين اللونين؟!