علي حسين
ظل المترجمون العرب حائرين بين جان بول سارتر وغريمه ألبير كامو، وأمضى الراحل عبد الرحمن بدوي نصف عمره يحل ألغاز كتاب سارتر الشهير "الوجود والعدم" من أجل أن يقدمه للقارئ العربي.. فيما انشغل مترجمون آخرون بترجمة كل ما كان يكتبه أو يقوله فيلسوف الوجودية..
صف طويل من المثقفين تأثروا بسارتر، فيما قلة قليلة كانت تقترب من أعمال المتمرد ألبير كامو، وأتذكر أنني عندما بحثت عن رواية "الطاعون" لكامو وجدت نسخة طبعتها إحدى دور النشر المتواضعة، فيما كان الغريم سارتر يحظى بعناية دور نشر كبرى في مصر أو لبنان.. قبل أيام وقعت تحت يدي طبعة جديدة من رواية "الطاعون"، وقد صدرت بعد أن اجتاح العالم وباء كورونا.. كثيرة هي المرات التي قرأت فيها هذه الرواية، وفي كل مرة أتوقف عند هذه الجملة المثيرة التي يقولها بطل الرواية الطبيب ريوكس: "حين يعم الوباء تزحف المقابر إلى قلب المدينة". في قراءاتي المبكرة للرواية كنت أتوقف عند المعنى الذي أراد منا كامو أن ندركه وهو العمل على أن لا يصبح الوباء قانونًا يتحكم في مصائر الناس.
في واحدة من أجمل حواراته يحاول كامو أن يعلمنا معنى أن يتربى الظلم والطغيان والوباء في أحضاننا "ينشأ الشر في العالم عن الجهل، وربما تسبب النوايا الحسنة من الضرر بقدر ما تسبب النوايا السيئة إذا افتقرت إلى الفهم، ولعل أكثر الرذائل المستعصية على التقويم هي من قبيل جهل الذي يتوهم بأنه يعرف كل شيء، ومن ثم يدعي لنفسه الحق في قتل الآخرين". وردًا على سارتر الذي كتب ينتقد الرواية على أنها تؤسس لأخلاق تسقط التاريخ ولاتجاه نحو العزلة السياسية، يؤكد كامو في رسالة إلى صديقه اللدود "لا أرى مناقشة جدلية للرد عليك سوى عشق جارف للعدل وهو ما يبدو لي خارجًا عن المنطق.. إنك ببساطة ترى اليأس بمنظارين، أما أنا فأرى اليأس وقد توزع على الجميع.. ولا دواء للطاعون إلا بإعلاء شأن العدل ومحاربة الجور الأبدي، وأن نخلق السعادة بغية الاحتجاج على عالم تسوده التعاسة.. في رفضي لليأس ولذلك العالم المعذب، إنما أطالب البشر بإعادة اكتشاف تضامنهم ليشنوا حربًا على قدرهم البغيض".
يعلمنا كامو أن الأمم لا يصيبها الوباء إلا عندما يستبيح الظلم الناس.. في مدن الطاعون نعيش مع أناس همهم الوحيد الإساءة للآخر، تراهم منذ أيام يسخرون من فجيعة أم بابنها الذي قتل في تظاهرات النجف، ويستكثرون عليها أن تطالب بالحق والعدل.. عندما تجد من يدعي المعرفة والثقافة يسخر من آلام أم ثكلى ويستحضر حوادث تاريخية مرت عليها قرون ومختلف عليها، فعلينا إدراك أن الوباء الحقيقي الذي يجتاحنا ليس وباء كورونا وإنما وباء غياب الضمير.