فاضل ثامر
1-2
الناقد والباحث ناجح المعموري علامة فارقة ومضيئة في تاريخنا الثقافي. فهو مع قلة من الباحثين العراقيين الجادين يمثل حلقة وصل مهمة بين إنجازات علماء الآثار العراقيين ،
والرؤيا الثقافية والنقدية التنويرية للمورث الثقافي والآثاري العراقي والعربي والإنساني. فهو بوصفه باحثاً في الاساطير والميثولوجيا الرافدينية لا يأخذ موقف عالم الآثار والمنقب والمستكشف في اركيولوجيا كنوز موروثاتنا القديمة والوسيطة ، بل يتخذ لنفسه مرقاباً آخر، يعيد فيه فحص وتقويم وتأويل وقراءة هذا المنجز، المادي والروحي للكشف عن دلالته ووظيفته ومعناه، وبالتالي لادراجه ضمن المسار الخصب للفكر العراقي عبر تراكمه المعرفي الوضئ .
وناجح المعموري لا يكتفي بالوقوف أمام المظاهر المادية أو الخطابات والمرويات التراثية والاثارية ، الشفاهية والمكتوبة ، بل يعيد موضعتها وقراءتها وتأويلها من منظورات حداثية وفكرية تنتمي إلى ما يسمى بـ " المنهج الأسطوري " الذي اقترحه الناقد نورثروب فراي في النقد والبحث . فهو بوصفه باحثاً ، يحفر عميقاً في البنى الثقافية الثاوية، ويعيد تفكيك الظواهر التراثية المادية والروحية والخطابية ليكشف عن أنساقها الحضارية والفكرية، وليميط اللثام عن المهمش والمغيب والمندرس والمطموس في طروسها وطبقاتها المتراكمة أو تلك المنغرسة داخل دهاليز اللاوعي الجمعي والمتراكمة منذ طفولة المجتمع البشري البدائية . وهذا الجهد البحثي والنقدي للاستاذ ناجح المعوري ، في حفرياته المعرفية الجريئة يواجه بشاجاعة ومسولية قضايا خطيرة كرستها " المرويات الكبرى " عبر التاريخ منها علاقة المقدس بالعادي ، ومكانة الجسد في ثقافتنا ، والدور الكبير للجندر والتابو وللأنوثة والسعي لاكتشاف الأصول الميثولوجية والمعرفية في مظاهر حياتنا المعاصرة ، مثلما فعل الناقد " رولان بارت " عندما استقصى مظاهر الميثولوجيا في حياتنا المعاصرة في كتابه "أسطوريات" وذهب الى القول إن الأسطورة لا تعرف بمادتها الأسطورية ،بل بالطريقة التي تنقل بها هذه الرسالة،فكل شيء ،حسب رولان بارت يمكن أن يكون أسطورةً ، ومثلما فعل عشرات الدراسين والنقاد أمثال نورثروب فراي وكارولين سبايرجين وكارول يونغ وجيمز فريزر ومود بودكن وارنست كاسيرر وموكاروفسكي وشتراوس وغيرهم يحاول الناقد أن يترك بصمته الخاصة في هذا الميدان .هذا وناجح المعموري ،بعمله العلمي والمعرفي، أنما يسد ٌ فجوة منهجية كبيرة في ثقافتنا طالما عانينا منها .ومنهجه هذا يدمج بين منجزات النقد الأسطوري والانثروبولوجيا والسوسيولوجيا والنقد الثقافي والنقد الابي من خلال منظور معرفي وتنويري يوظف خطاباً أدبياً ولسانياً رفيعاً ، يجعل الكثير من كتاباته نصوصاً إبداعية مشرقة ، فضلاً عن قيمتها العلمية والمعرفية والبحثية .
ناجح المعموري ، مجتهد شجاع, يمد أصابعه ومجساته النقدية داخل كثبان الماضي والمندثر ليستخرج لنا اللآلئ الثاوية في القاع ، وليعيد صياغة رؤياً جديدة , ونصاً كتابياً مغايراً .
وكتاب الناقد ناجح المعموري " الأسطورة في السرد العربي الحديث" هذا، يندرج ضمن مساهمات نقدية جادة وعميقة في ميدان النقد الادبي الأسطوري، بدأها الناقد بمحاولة اكتشاف الانساق المغيبة والوصول إلى الجذور الأسطورية الثاوية داخل النصوص الأدبية والثقافية والدينية. وصرف الناقد جهداً كبيراً لتعرية وفضح ما تروج له وسائل الإعلام الايديولوجية الصهيونية عبر توظيف النص التوارتي، كاشفاً بشكل خاص عن الأصول السومرية والبابلية لهدا الفكر الأسطوري؛ والتي سرقها الكهنة اليهود أثناء أسرهم في بابل وأدرجوها ضمن كتبهم واسفارهم اللاهوتية بوصفها أصيلة. ويمكن أن نشير هنا الى ما قدمه الناقد في هذا المجال من خلال مؤلفات مثل: " تأويل النص التوارثي " و"التوراة السياسي “: السلطة اليهودية: أنساقهاووظائفها و"الأسطورةوالتوراة" و"ملحمة جلجامش والتوراة " و"أقنعة التوراة" و"الأصول الأسطورية في قصة يوسف التوراتي" وغيرها.
وقد أشار الناقد في مقدمة "التوراة السياسي" الى أن دراسته للأسفار التوراتية تمثل بالنسبة له مشروعاً معرفياً مهماً، وإنه حاول التصدي للعمدية التوراتية في التلاعب بالتراث المصري / السوري /العراقي وإعادة صياغته، وبما يوحي بانقطاعه مع الأصول في الشرق، ومن ثم فضح كل الذي مارسه الكهان من رجال الدين والكتبة من محاولات طمس للمعالم والأصول .
كما انصرف الناقد الى رصد الكثير من المظاهر الثقافية العراقية والعربية والتي انطوت على توظيفات ميثولوجية/ اسطورية في مجال الشعر والفن التشكيلي، والرواية والنحت والفوتوغراف. ويمكن أن نشير هنا الى كتابة المهم "الاطراس الأسطورية في الشعر العربي الحديث "2019 والذي قال فيه الى أن هذه الدراسات قد حاولت الكشف عن علاقة جوهرية بين الأسطورة والشعر لأنهما اعتمدا المجاز والانزياح. وركز الناقد على مركزية الأسطورة الخاصة بثنائية الخصب والموت، لأنه يعتقد أن كل النصوص التي تناولتها دراساته النقدية واقعة تحت هيمنة هذه الثنائية.
ومفهوم الطرس “الذي اعتمده الناقد ناجح المعموري هو من اختراع الناقد الفرنسي جيرار جينيت، في كتابه " الاطرس " Palimpsestesالصادر عام 1972 ، فالطرس هو الكتاب الذي يكتب ويمحى ثم يكتب فوقه ثانية ، وربما ثالثة ، مختزنا في الآن ذاته كل تلك الكتابات الممحوّة والمكتوبة . وقد ورد في "المعجم الوسيط " الصادر عن مجمع اللغة العربية بالقاهرة ان الفعل " طرس " الكتاب طرساً ، كتبه ،محاه . كما يشير الى إعادة الكتابة على المكتوب والممحو ، وتجمع الكلمة على طروس وأطراس . وقد سبق لي شخصياً أن توقفت عند مفهوم الطرس في دراستي النقدية " رمزية القدس في الرواية العراقية " عند الحديث عن رواية الروائي علي بدر " مصابيح أورشليم " حيث نجد بطل الرواية إدوارد سعيد وهو يحاول قراءة الممحو والمغيب والماضي خلف الصورة الراهنة للأشياء والمرئيات التي أسستها الدولة الصهيونية لطمس المعالم الأصلية لمدينة القدس .
وحاول الناقد في " الأطراس الأسطورية " ملاحقة تمظهرات الوحدات الميثولوجية المتشظية داخل الخطاب الشعري العربي الحديث، وهي في الاغلب مظاهر مموهة ومقنعة وغير معلنة، لكنها تأويه داخل النص ، بشكل جزئي أو تلميحي عابر ، يصعب أحياناً التقاطها ، لكن غواصاً عنوداً مثل ناجح المعموري كان لا يخشى الغوص داخل النسيج المعقد والمتشابك لبنيات النص وشفراته السرية ،ليلتقط هذه الخيوط المبعثرة ويعيد تنظيمها ، للوصول الى حمولاتها السيميائية والدلالية والوظيفية .
وإذا ما كان الناقد الادبي يسعى لإماطة اللثام عن شعرية النص أو أدبيته ، كما بين ذلك رومان جاكوبسن في وقت مبكر .و‘ذا ما كانت وظيفة الناقد الثقافي مطاردة الأنساق الثقافية السرية المبثوثة داخل النص، كما يذهب الى ذلك دعاة النقد الثقافي ، ومنهم الناقد د. عبد الله الغذامي ، فإن وظيفة الناقد الأسطوري ، في منحاه الحداثي ، والتي سبق للناقد نورثروب فراي وان وضع أسسها ، والتي تمثلها تجربة الناقد ناجح المعموري تسعى الى الوصول الى الانساق الميثولوجية المغيبة ، وهي أنساق ثقافية وايديولوجية وحضارية ترتبط بحياة الإنسان وتاريخه ووعيه الفكري عبر التاريخ ومتشظية داخل ركامات وطبقات اركيولوجية / معرفية قديمة ، يصعب أحياناً الوصول الى جذورها ومكونها ومحركاتها وجينالوجيتها الاصلية .
ويمكن القول إن الوظيفة المركبة للنقد الأسطوري تتمثل في الكشف عن النويات الميثولوجية الصغرى المسماة بالمثيمات methemesوالتي هي أصغر وحدات ميثولوجية microstructure تشكل بمجموعها البنية الميثولوجيا الكبرى macrostructure ، والتي هي ، كما ذهب الى ذلك كلود ليفي شتراوس ، مجترح هذا المصطلح ، تقابل الفونيمات phonemes وهي أصغر وحدات صوتية في علم الأصوات اللغوية ، والمورفيمات morphemes ، اصغر وحدات صرفية / مورفولوجية. إذ سبق لشتراوس أن قال في رؤيته البنيوية للميثيم :
"إذا ما أراد امرؤ أن يؤسس لعملية موازارة بين اللسانيات البنيوية والتحليل البنيوي للميثالوجيا ، فان التعالق يجب أن يتحقق ليس بين الميثيم والكلمة وإنما بين الميثيم والفونيم ( اصغر وحدة صوتية ).
ويخيل لي أن ناجح المعموري كان قريباً من التقاط فكرة الميثيم، بوصفها أصغر وحدة أسطورية ، وإن لم يشر إليها بالاسم الصريح . وذلك في كتابه "تاؤيل النص التوراتي " عندما توصل الى التقاط ما أسماه ب " وحدات النص الأسطورية " وإعادة هيكلتها وتصنيفها وتنسيقها لاستنباط انساق تشكلها ودلالاتها ، والتي كانت تتمركز، كما لاحظ حول موضوعة الخصب ، وهيمنة النسق الأنثوي على الوحدات النصية .
وعلى المستوى التطبيقي نجد أن ناجح المعموري في كتابه السردي هذا لم يقتصر على وظيفة النقد الأسطورية، وإنما كان يحقق موازنة معقولة مع المقاربة النقدية، ببحثها عن مقومات شعرية النص، والمقاربة الثقافية بالتقاطها للانساق الثقافية المغيبة، كما لم يكن بعيداً عن المجسات السيكولوجية والانثروبولوجية والسوسيولوجية والأيديولوجية والتأويلات الهيرمينوطيقية في منهجه النقدي الشامل هذا .