طالب عبد العزيز
لعل أهم ما اتسمت به حقبة الحكم في عراق ما بعد 2003 هو انفصام عرى المواطنة بين الدولة والمواطن، مع يقيننا بأنها لم تنتظم عميقاً قبل ذلك بكثير، فقد اتى نظام صدام حسين على ما بقي من العلاقة (الطيبة) بين الاثنين، لكنها ظلت قائمة بشكلها التقليدي، خلف ستار من القمع والوحشية، التي عرف بها النظام آنذاك.
فيما تأسست في عهد الأحزاب الإسلامية التي حكمت العراق سبعة عشر عاماً الماضية قواعد هي الاسوأ لجملة العلاقات بين الدولة والمواطن من جهة، وبين المواطن والمواطن نفسه من جهة أخرى. هناك سوء معلن وخفي في العلاقات، اودها النفعية ويشوبها الخوف والريبة من الآخر، بنيت على أساس من الخوف والنفاق الاجتماعي، فمفردة مثل (إن شاء الله) التي تسمعها من المسؤول، تعني لن أفعل، وجملة (الله كريم) أصبحت تعني إنني غير مسوؤل عنك، وجملة (بيد الله) تعني الميؤوس منه، وحين يقول الرجل لسيّده (انا بخدمتك) فهو يقصد لن أفعل ! وهكذا...
في كتاب الثورة والثورة المضادة كان هيربرت ماركوزة وهو يتحدث عن سوء ما تفعله الرأسمالية قد أشار الى كتاب لوشيو ماجري ( برلمانات أم مجالس) والى السطرين هذين: ... فالمطلوب، الآن، بناء نظام اجتماعي يكون قادراً لا على أن ينتج أكثر، ويوزع أفضل، بل أيضاً على أن ينتج سلعاً مختلفة بطريقة مختلفة، وعلى أن يعطي العلاقات بين البشر شكلاً جديداً. وهنا، لن نعطي الانتاج الأكثر والتوزيع الأفضل أهمية، لأننا في دولة لم تنتج شيئاً بالاساس، إنما نولي العلاقة بين البشر الأهمية، هذه العلاقة التي تفسخت وخرجت من كونها منظومة قادرة على صناعة مجتمع آمن ومتطور.
ربما يعتقد أحدنا بانَّ النظام الديني قام بتأمين حاجات ما في النفس الإنسانية، وهذا ما يظنه البعض تفضيلاً على النظام القائم على جملة الحاجات العملية بين الإنسان ومجتمعه والنظام السياسي، لكنه في الحقيقة إنما شرّع وأسس لاقبح مرحلة حياتية، فقد جعل من النفاق الاجتماعي نمطاً حياتياً، إذ كل علاقة تقوم على مبدأ الخوف والانتفاع إنما هي علاقة مريبة، لا تنتج مواطناً سليماً، إذ تحت قناع تحقيق الدولة الموعودة( العدل الإلهي) ومرضاة الله، وأولي الامر يتجلى واقع المصلحة الشخصية، والانانية المفرطة، ويتم حكم السواد الاعظم من الفقراء والمساكين، الذين سيذهبون باجسادهم وأكياس نقودهم الى حيث يجلس الكاهن ويدبر أمر رغائبه في السلطة والاستمرار . وبذلك يتحقق له – لها (الدولة) ما كان مستحيلاً، بل ستجد إنسانها الذي دمرته من الداخل أكثر استجابة .
كانت العبادةُ وحتى وقت قريب مؤدىً داخلياً بين العبد وخالقه، لا تتجاوز حدود العقل والروح، لكنها وبفعل مدروس ومنظم، وله غاياته البعيدة، اصبحت حراكاً اجتماعياً وسلطوياً، يتوجب كماله في بناء المسجد الكبيرالمطرمح ولا ينتهي بالقاشان والسجاد الفاخر والثريات الكبيرة، والمآدب الباذخة، ثم انه بات يتمظهر في امكنة اخرى، لها ذات الدلالات العبادية والاجتماعية مثل المضيف والديوان والمجلس. في الامكنة هذه، حيث لا وجود للقوانين المنظمة للحياة، تتغلب قوة النفاق والخوف من المجهول، ويتم عجن وتداول نمط العلاقة المريبة بين السلطة والمواطن.