ستار كاووش
رأيته عدة مرات من خلال نافذة المطبخ وأنا أنظر الى الجادة المحاذية للمرسم أثناء تحضير القهوة. الشيء الوحيد الذي أثار إنتباهي، هو ذلك الطائر الأزرق الذي يقف على كتفه، ويحيله الى قرصان أحمر خرج سهواً من كتب التاريخ.
وما أثار فضولي أكثر هو أن الطائر كان ثابتاً ومطمئناً ومسترخياً حتى حين يرمقه الرجل بطرف عينه! نعم طائر جميل من نوع (ببغاء المحيط الهادئ) يستقر على كتفه أثناء ذهابه بإتجاه الشارع المؤدي الى مركز المدينة أو عند عودته نحو الفناء الذي شكَّلَتهُ بيوتنا المتكئة على بعضها، رجل في الستين من عمره تقريباً، يبدو نشيطاً بمظهره الرياضي وملامحه الجميلة وشاربه الدقيق الذي يذكرني بالممثل برت رينولدز. وبسبب مروره المتكرر، ظننته جاراً جديداً سكن تواً في أحد البيوت المجاورة، لكن أتضح لي بالمصادفة أن الأمر غير ذلك تماماً، ففي حين كنتُ أعيد ترتيب المخزن التابع لي أسفل البيت، كي أهيء مكاناً يَقي دراجتي الهوائية من المطر، لمحتُ من خلال الباب الموارب للمخزن الصغير، ذات الرجل، وقد انبثق واقفاً بقامته المديدة وهو يبتسم، بينما التمع لون الطائر الذي إنتصبَ على كتفه مشعاً بسبب ضوء الشمس القادم من خلفه، حرَّك الباب بيدهِ، ليزيد اتساع فتحته قليلاً وهو يبتسم مثل صديق قديم قائلاً (صباح الخير، أنا وليَم إبن السيدة التي تسكن جوارك) رددت عليه التحية، ليكمل (عرفت من والدتي بأنك رسام. أنا أحب الرسم كثيراً وأمارسه في فترات متباعدة) فتبادلتُ معه بعض الكلمات الودودة، ليسألني في النهاية وأنا اركز نظري على الطائر الأزرق الذي بقي ثابتاً بل ويزداد طمأنينة كلما تحدث الرجل (أين يمكن أن اشاهد لوحاتك؟ وهل يمكنني أن أزور مرسمك إن كان هذا الأمر لا يزعجك؟) فـأجبته (يسعدني ذلك بكل تأكيد، ومرسمي هو هذا الذي تراه فوق، والآن حان وقت القهوة، فهل تحب أن نحتسيها سوية ونحن نشاهد اللوحات؟) قلتُ ذلك وأنا أشير الى السلم الحديدي الذي يؤدي الى بيتي والمرسم، لنصعد مباشرة، ولم تمض دقائق حتى بدأت خيوط صداقة مدهشة تملأ المرسم كما ملأته رائحة القهوة التي أعددتها قبل قليل.
هكذا تعرفت على واحد من أفضل أصدقائي الهولنديين وليم فان دِر هوفن، ثم على زوجته الانجليزية الجميلة مارغريت ذات الروح الحانية المنفتحة المليئة بالمحبة والكرم، ولم ينقطع تواصلنا حتى بعد انتقالي الى منطقة أخرى ثم الى مدينة بعيدة شمالي هولندا، وواظبا معاً على حضور معارضي وإقتناء الكتب التي صدرت عن أعمالي، وفوق ذلك كان وليم لا يتردد في كل مرة بتقديم المساعدة لي عند الحاجة، حيث يصحبني في باصه الأبيض الصغير عند شرائي حاجات كبيرة ويوصلها معي الى المرسم بكل يسر وطيب خاطر.
قضى وليم سنوات طويلة وهو منشغل بصناعة نماذج خشبية صغيرة للسفن الهولندية، وعند زياراتي لهما، يحرص على أن يعرض لي نماذج من السفن التي قام بصناعتها بدقة مذهلة أمام نظراتي المنبهرة، بينما تُهيء لنا مارغريت المائدة، حيث الطعام الانجليزي والنبيذ، لنتحدث عن الصداقة والرسم والحياة، وهما يستعيدان معي لقاءاتهم الأولى وحبهم لبعض أيام موسيقى البيتلز، واحدثهم عن لوحاتي وايام بغداد البعيدة، ويضحكون حين أصف إبنهم الوسيم المندفع أريك وأسميه (روبن هود) لأنه فعلاً يمتلك بعض مواصفات هذه الشخصية الأسطورية، نتحدث عن الفن والجمال والحياة والصداقة، بينما الطائر الأزرق يجوب غرفة المعيشة بمرح لا يخلو من المشاكسة.
كنتُ عائداً ذات ظهيرة الى المرسم، لتستوقفني صديقتنا المشتركة ليني قائلة (هييه ستار، أردت أن أخبرك بأن مارغريت بدأتْ تعطيني دروساً باللغة الانجليزية) فشجعتها على ذلك وقلت إن هذه فكرة مدهشة كونَ مارغريت تجيد الهولندية والانجليزية بشكل متناغم، عندها سألتني ليني ( لا يمكنك أن تحزر أول جملة قالتها لي بالانجليزية) وحين استفسرت عن ذلك قالت (ستار رجل جميل) عندها قهقهنا ضاحكين قبل أن أصعد نحو المرسم.
صديقان مثل وليَم ومارغريت يجعلان الحياة أكثر جمالاً ودفئاً، وهذا ما شعرت به خلال سنوات طويلة جداً، حتى آخر لقاء لنا حين لاحا لي في معرضي الأخير بمدينة هوخفين وهما يحتضناني بفرح وكأني واحد من العائلة، ويدعواني على حفلة عيد زواجهما الذي يزهر كما تزهر ورود مارغريت في حديقتهما الجميلة.