صلاح نيازي
المخاطبة في السورة كلها للكفرة فقط. فتساءلوا: تعني لغة، سأل بعضهم بعضاً، الا انها قد تعني هنا: تلاغطوا بلاغة بدليل الآية الثالثة: «الذين هم فيه مختلفون»، لأن «هم» التوكيد هنا، لا تشمل الا الكفّار.
قال ابن كثير في تفسير «كلاّ سيعلمون. ثمّ كلاّ سيعلمون». ثم قال تعالى لمنكري القيامة «كلاّ سيعلمون، ثم كلاّ سيعلمون» وهذا «تهديد شديد ووعيد أكيد»، أي للكفار.
وقال الطبرسي: «وقال قوم: كلاّ سيعلمون ما ينالهم يوم القيامة من العذاب، ثم كلاّ سيعلمون ما ينالهم في جهنم من العذاب، فلا يكون تكراراً». لا ريب-حسب الرواية - لا وجود للمؤمنين في كلتا الآيتين.
نجد في تفسير الزمخشري عوناً لنا فيما ذهبنا اليه. يقول الزمخشري: «كلاّ»: ردع للمتسائلين هزؤاً، «وسيعلمون» وعيد لهم بأنهم سوف يعلمون ان ما يتساءلون عنه ويضحكون منه حق لأنه واقع لا ريب وتكرير الردع مع الوعيد تشديد في ذلك. ومعنى «ثمَّ» الاشعار بأن الوعيد الثاني أبلغ من الأول وأشد.
أما ما قاله الطبري عن قوم بأن «كلاّ» معناه حقاً، وما ذكره القرطبي من أن معنى كلاّ: «يجوز أن يكون حقاً أو «ألا» فيبدأ بها، فلا مجال لهذا المعنى هنا وإن صحّ لغوياً في غير هذا المقام.
أولاً لأن «حقاً» سردية وكأن المتحدث لا يخاطب المتسائلين، بينما «كلاّ» الرفضية، خطاب موجه إلى أناس بعينهم، ثم أن «لا» في نهاية «كلاّ» ذات إيقاع غاضب، لتمهد تمهيداً طبيعياً لما يليها من آيات. عرفنا أن المتحدث في السورة، رأى جمهرة من الناس وسمعهم لاغطين من بعيد. ولم يقترب منهم وبالتالي لم يخاطبهم وجهاً لوجه. ومما دلّل على تلك الفجوة المكانية والنفسية كذلك. لفظة «كلاّ» مكررة، وكأنهم أناس ميؤوس منهم، ولأنهم كذلك، فإن المتحدث لم يدخل معهم في نقاش مباشر، إنما ذكرّهم بما يحيط بهم من شواهد ملموسة. وكأن المتحدث أيضاً كان يقول كيف يستطيعون إنكار «النبأ العظيم»، وكل ما حواليهم ينبئ بقدرة خارقة على الخلق.
من تلك الشواهد الملموسة:
«ألم نجعل الأرض مهاداً»
«والجبال أوتاداً»
«وخلقناكم أزواجاً»
«وجعلنا نومكم سباتاً»
«وجعلنا الليل لباساً»
«وجعلنا النهار معاشاً»
«وبنينا فوقكم سبعاً شداداً»
«وجعلنا سراجاً وهّاجاً»
«وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجاً»
«لنخرج به حباً ونباتاً»
«وجنات ألفافاً»
في الآيات أعلاه براهين تدحض المتسائلين. جعلت عيونهم هم وما ترى، شهوداً ضدهم، وكأن المحاججة اصبحت لا بين اثنين غريبين، وإنما بين الانسان وعينيه، فإن أنكر ما ترى عينيه، تكون جريرته أشنع وأكبر.
في الآيات أعلاه كذلك، نظام كوني دقيق وآمن يبدأ بالأرض الممهدة والجبال الراسخة، وفي أمانٍ كهذا يتوالد الانسان ويتناسل بصورة طبيعية، وذلك تمهيد لما يأتي من آيات.
ولزيادة الطمأنة قُدّمت آية: «وجعلنا نومكم سباتاً» على آية: «وجعلنا النهار معاشاً»، ذلك أن راحة الانسان لا تقاس إلا بالنوم متى ما نام فيه قرير العين مطمئناً بلا خوف أو هاجس.
في الآيات من السابعة إلى الثانية عشرة، لم تكن حاسّة البصر هي الشاهد الوحيدة ضد الانسان، وانما اشتركت فيها الباصرة كذلك، وكأنما تعاظم الشهود ضده.
تنتقل السورة بعد ذلك بحاسة البصر إلى مدى كوني أوسع خارج الانسان، لا يمكن لأي بصر أن ينكره: «وبنينا فوقكم سبعاً شداداً» «وجعلنا سراجاً وهّاجاً».
حذفت في الآية الأولى، «السماء» وحذفت في الثانية «الشمس». لحذف الموصوفين دلالات نفسية عميقة، منها أن الوصف الذي أناب عن الموصوف، كافٍ لأن يدحض كل متسائل، وحجة لا تحتاج إلى برهان. من ناحية التأليف الفني، فإن حاسة البصر كانت تنظر إلى الأعلى أي إلى السماء والشمس، فما الوسيلة الفنية التي يمكن بها أن تنزل إلى تحت لا بد من مبرّر إذا كان التأليف أصيلاً؟
نزلت حاسة البصر ببراعة مع نزول المطر، إلى الأسفل، فوجدت «حبّاً ونباتاً» و «جنّات ألفافاً»، فهل ثمة أكثر طمأنة للعين من ذلك؟
هكذا، فإن الآيات حتى الآن مرتبطة ارتباطاً عضوياً ببعضها بعضاً، ونامية نمواً منطقياً وفنياً، وأكثر من ذلك توقيتاً. ولكن قبل أن نعالج التوقيت وأهميته، قد يكون من المفيد أن نناقش بعض آراء المفسرين واجتهاداتهم، من تلك الاجتهادات:
1 - المهاد
2 - وخلقناكم ازواجاً
3 - من المعصرات
4 - جنّات ألفافاً.
والآن قد يكون من المفيد أن نقابل الآيات من 18 - 30 بالآيات الأولى في السورة أي من الآية الثالثة إلى الآية السادسة عشرة.
أولاً قد نجد علاقة فنية ونفسية بين (كلاّ) في الآيتين الثالثة والرابعة:
(كلاّ سيعلمون، ثم كلاّ سيعلمون)، حيث تطورت من الردع والزجر وبين النفخ في الصور. وثمة علاقة بين (الأرض مهاداً) وهي مراح طليق وبين (وفتحت السماء) أي مكان محدد لا تنوع فيه ولا حياة إن صحّ التعبير. وكذلك الجبال التي كانت أوتاداً فباتت سائرة وكالسراب.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن مقابلة (إنَّ جهنَّم كانت مرصاداً) بالآية: (وجعلنا سراجاً وهّاجاً) حيث جهنّم مضاءة بالنار، والشمس مضاءة بالنور. كما أن (مرصاداً) تقابل الليل الساتر: (وجعلنا الليل لباساً).
أما (لابثين فيها أحقاباً) فهي وإن دلّت على الإقامة، إلاّ أنها فاقدة لكل ما يمتُ إلى الحياة بصلة، وهذا بعكس ما افترضناه سابقاً من أن الإنسان يمرُّ بدورة حياتية وفصول، شأنه شأن الشجر والنبات في السورة.
لكن من أين تطور البرد والشراب في الآية: (لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً)؟
يبدو أن البرد هنا يقابل الآية التاسعة: (وجعلنا نومكم سباتاً)، أي جعلنا نومكم موتاً مؤقتاً. فإذا صحّ هذا الافتراض، فالبرد في الآية لا يعني سوى النوم، أي لا يذوقون طعم النوم.
على أية حال، ما معنى الحميم والغساق؟ هنا أيضاً يختلف الشرّاح في تحديد مفهومهما. ونظراً لطول ما توسعوا فيه وضيق المجال، سنرجئ الحديث عنهما الآن على أن تكون جزءاً من مقالة خاصة أعدّها كاتب هذه السطور عن: (حاسة الذوق في القرآن الكريم) وستنشر قريباً.
تعود الآيتان: (إنهم لا يرجون حساباً) و (وكذّبوا بآياتنا كِذّاباً) إلى بداية السورة وكأنما تجيبان عن: (عمّ). فبينما تقابل (حساباً): (النبأ العظيم)، تقابل (كِذّاباً): (مختلفون) في الآية (الذين هم فيه مختلفون).
اختلف المفسّرون كذلك في تحديد معاني (مفازاً) في الآية (إنَّ للمتقين مفازاً)، (وحدائق) في الآية (حدائق وأعناباً)، و(كواعب) في الآية (وكواعبَ أتراباً)، كما اختلفوا في (وكأساً دهاقاً).
قال الزمخشري: « (مفازاً) فوزاً وظفراً بالبغية أو موضع فوز، وقيل نجاة مما فيه أولئك أو موضع نجاة، وفسّر المفاز بما بعده»
قال الطوسي: «مفازاً وهو موضع الفوز بخلوص الملاذ، وأصل الفوز النجاة إلى حال السلامة والسرور، ومنه قيل للمهلكة مفازة على وجه التفاؤل لأنه قيل منجاة وقيل مفازاً منجى إلى مبّرة».
وذكر الطبرسي شيئاً مماثلاً يكاد يكون حرفياً، وكذلك القرطبي.
أما ابن كثير فنقل عن ابن عبّاس أن المفاز هو المتنزّه قال الطباطبائي: « الفوز الظفر بالخير مع حصول السلامة - على ما قاله الراغب - ففيه معنى النجاة والتخلص من الشرّ والحصول على الخير والمفاز مصدر ميمي أو اسم مكان من الفوز والآية تحتمل الوجهين معاً».
إن مردّ اختلاف الاجتهادات أعلاه ناجم عن أن المفسرين نظروا إلى الآية منفردة دون ربطها بما سبقها من آيات. لقد رأينا في البداية الأرض مهاداً والجبال أوتاداً، وقد دللّت على الاستقرار والطمأنينة، بينما قابل ذلك يوم الفصل والنفخ في الصور وانفتاح السماء وتسيير الجبال وكلّها علامات تدلّ على اضطراب مفزع لحاستي البصر والسمع معاً.
على هذا، فـ (مفازاً) هنا قد لا تكون إلاّ موضعاً توضّح فيما بعده أي (حدائق واعناباً). فالحدائق سواء كانت «بساتين فيها أنواع الشجر المثمر، والاعناب: الكروم» على رأي الزمخشري، أو أنها «البساتين المحوّط عليها» على رأي القرطبي، فإنها تدلل على وجود ثبات وعناية. فالثبات آتٍ من جذورها، والعناية من أنها محوّطة، أي أنها غير مفتوحة.
أكثر من ذلك فإن الحدائق والاعناب يمكن مقارنتها بالحبِّ والنبات في الآية (لنخرج به حبّاً ونباتاً)، حيث الحدائق والأعناب كأنها تمّلك خاص، بينما الحَبُّ والنبات، لا مالك له أي أنه ملك مشاع. كذلك تدّل الحدائق والأعناب على صورة فلاحية خاصة، بينما نلمس في الحب والنبات صورة رعوية، عامة.
لكن كيف فسّر المفسرون: (وكواعب أتراباً)؟ وما هي الكواعب؟ وماهي الأتراب؟ يقول الطبري: وقوله (وكواعب أتراباً) يقول:(ونواهد في سّن واحدة) ونقل عن ابن عباس معنى (أتراباً أي مستويات)، ونقل عن قتادة: (وكواعب أتراباً يعني بذلك النساء أتراباً لسنّ واحدة).
أما الطبرسي، فيذهب به الخيال بعيداً فيقول: «أي جواري تكعب ثديهنّ مستويات في السنّ، عن قتادة، ومعناه استواء الخلقة والقامة والصورة والسنّ، حتى يكنَّ متشاكلات وقيل أتراباً على مقدار أزواجهنّ في الحسن والصورة والسنّ»
القرطبي في هذه الآية نقل ولم يجتهد.
إلاّ أن الطباطبائي، أضاف شيئاً طريفاً لا يخلو من تلذذ شخصي واستمراء. قال: «وقوله: وكواعب جمع كاعب وهي الفتاة التي تكعب ثدياها واستدار مع ارتفاع يسير»، ولا ندري كيف استدلّ على الارتفاع اليسير؟ لا شك أن المفسرين أعلاه، أصابوا بهذه الدرجة أو تلك في تفسير الكواعب تفسيراً لغوياً، ولكنهم لم ينظروا اليها في مجمل السورة.
يبدو أن الكواعب هنا صورة نباتية بالاستقراء والاستدلال، ولا علاقة لها باللحم والدم والعظم. أي انهنَّ لسْنَ من جبلة بشرية حتى يلمسن.
إن وجودهنَّ هنا جاء بعد (حدائق واعناباً)، فأصبحن متعة بصرية، شأنهن شأن الحدائق والاعناب، وهنَّ مثل النبات يوحين بالنموّ واليفاعة والطراوة.
قلنا إن الكواعب صورة نباتية، لأنها صفة بلا موصوف أولاً ولم يوصف لهنَّ جسد أو شكل، أو وجه أو أذرع، وإنما اكتفى بالنهود الكاعبة وما أقربها إلى البراعم.
ومما يدلّ على نباتية الكواعب هنا، أننا نرى في الآية التي قبلها (حدائق وأعناباً) حاستي البصر والذوق، وفي الآية التي بعدها (وكأساً دهاقاً) حاستي الذوق والبصر وربما السمع، وفي الآية التي بعدها: (لا يسمعون فيها لغواً) حاسّة السمع، أي أنَّ حاسة اللمس لم تستعمل.
لماذا لم تستعمل حاسة اللمس، وهل يتمُّ أيُّ غزل بدونها؟ وكما رأينا فإن الحواس التي استخدمت قبل (كواعب) تركزت في حاستي البصر والذوق أي متعة للنظر وتطعماً. على ذلك لا يمكن أن تكون (كواعب) صفة لكائنة بشرية، حسب المقاس.
قد يكون من المفيد أن نقتبس ما ذكره الدكتور بهاء الدين الوردي في كتابه «حول رموز القرآن» (ص 24): وقد انتشرت عبادة الشجرة (4000 - 3500) في كيش والورقاء وحتى أريدو.. وكانوا يعبدون الشجرة حتى عملوا لها أصناماً وتماثيل. وكانت عبادة الشجرة سرية في البداية حيث كان الكهنة والمريدون يجتمعون في سراديب تحت الأرض لعبادة الشجرة وأكل ثمارها والاستلهام من إله (الأعماق) (انكي Enki).
لذا فـ : (كأساً دهاقاً) قد لا تعني هنا إناءً يشرب فيه وممتلئاً، وإنما هي مجاز لنضج الثمر وطراوته.
ينقل «تاج العروس» «عن أبي حاتم وابن عباد: الكأس: الشراب بعينه»
كما ينقل عن المحكم: الكأس: الخمر نفسُها ومنه قوله تعالى: (يُطاف عليهم بكأس من معين) وأنشد أبو حنيفة رحمة الله تعالى للأعشى:
وكأسٍ كعين الديك باكرتُ نحوها
بفتيان صدق والنواقيس تضربُ
وأنشد أيضاً لعلقمة:
كأس عزيز من الأعناب عتّقها
لبعض أربابها حانيّةٌ حوم
يبدو أن الكأس في هذه الآية لا تعني سوى الثمر الذي ينزُّ منه الشراب من فرط نضجه، وهي صورة مترفة للوفرة والطزاجة. وهي إلى ذلك جمعت حاسة البصر حيث منظر الثمر الندي مع حاسة الذوق حيث الشراب في أحلى كماله، وأقصى استوائه.
اختلف المفسرون كذلك في (كذاباً) هل هي بالتشديد أم بالتخفيف؟
قال الطبري: «وقيل كِذّاباً ولم يقل تكذيباً تصديراً على فعله وكان بعض نحويي البصرة يقول قيل ذلك لأن فعل منه على أربعة فأراد أن يجعله مثل باب أفعلت ومصدر أفعلتْ إفعالاً فقال كذاباً فجعله على عدد مصدره قال وعلى هذا القياس تقول قاتل قتالاً قال وهو من كلام العرب. وقال بعض نحويي الكوفة هذه لغة يمانية فصيحة... وأجمعت القرآء على تشديد الذال من الكذاب في هذا الموضع...»
وذكر القرطبي: (كذاباً) بتشديد الذال وكسر الكاف على كذّب أي كذّبوا تكذيباً كبيراً ونقل عن الفراء انها لغة فصيحة. وقال: يقولون: كذّبت به كذّاباً، وخرقّت القميص خراقاً وكل فعل على مصدر (فعَّل) فمصدره فعّال مشدّد في لغتهم، وأنشد بعض الكلابيين:
لقد طال ما ثبطتني عن صحابتي
وعن حِوجٍ قضاؤها من شفائنا
وقرأ علي (رضي الله عنه) (كِذَاباً) بالتخفيف وهو مصدر أيضاً. وقال أبو علي: التخفيف والتشديد جميعاً: مصدر المكاذبة، كقول الأعشى:
فصدقتها وكذبتها
والمرء ينفعه كِذابُه
ابو الفتح: جاءا جميعاً مصدر كذب وكذّب جميعاً. الزمخشري: (كذاباً) بالتخفيف مصدر كذب
نرى مما تقدّم أن المفسرين لجأوا إلى تبريرات لغوية وحسب، ولم يوازنوا بين التثقيل والتخفيف في عموم السورة، كما أنهم لم يستشفّوا المعنى البلاغي لهما. يبدو أن التثقيل أصوب من عدة وجوه، على رأسها أن السورة شدّدت على التثقيل قبل ذلك وفي عدّة آيات منها: سراجاً وهّاجاً وماءً ثجاجاً، وفُتِّحت السماء، وحميماً غسّاقاً، والتثقيل هنا يوحي بالكثرة والتوكيد ويتماشى مع الإيقاع الموسيقي العام، لما قبل (كِذّاباً) من آيات.
يختلف المفسرون كذلك في إعراب (ربكم) و (الرحمن) في الآيات:
(جزاءً من ربِّك عطاء حساباً.
ربّ السماوات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطاباً).
ففي بعض النسخ تُشكّل (ربّ السماوات) بالكسر والضمّ، وتشكّل (الرحمن) بالكسر والضمّ أيضاً.
قال الزمخشري: «قرئ رب السماوات والرحمن بالرفع على هو ربّ السماوات الرحمن، أو رب السماوات مبتدأ والرحمن صفة ولا يملكون خبر أو هما خبران وبالجرِّ على البدل من ربك وبجرّ الأول ورفع الثاني على أنه مبتدأ خبره لا يملكون أو هو الرحمن لا يملكون».
و يقول الطبرسي:«ومن قرأ (ربٌّ السماوات والأرض وما بينهما الرحمنُ) قطع الاسم الأوّل من الجرّ الذي قبله في قوله (جزاء من ربِّك فابتدأه)، وجعل (الرحمن) خبره ثم استأنف ( لايملكون منه). ومن قرأ ربِّ السماوات (ربِّ السماوات... الرحمن) اتبع رب السماوات الجرّ الذي في قوله من ربك واستأنف بقوله الرحمن وجعل قوله: لا يملكون خبر قوله الرحمن»
هذه الوجوه المختلفة للإعراب لا تصّح مرة واحدة، وليست المسألة، مسألة خيار، أو جوازها نحواً.
لا بدُّ أن لها وجهاً واحداً في الأصل، وهو اثبت للمعنى والبلاغة. فحين قيل (جزاء من ربَّك) جاءت الآية التي بعدها لتحدد ذلك الربِّ: (ربِّ السماوات والأرض وما بينهما) فلا بدِّ أن تجرَّ بدلاً. لأن (ربِّك) الأولى قد تصرف الذهن إلى ربّ خاص.
قال الطباطبائي: (قوله تعالى: (رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن) بيان لقوله: (ربك) أريد أن ربوبيته عامة لكل شيء وأن الرب الذي يتخذه النبي (ص) رباً ويدعو إليه كل شيء، لا كما يقول المشركون: إنّ لكل طائفة من الموجودات ربْاً والله سبحانه ربّ الأرباب أو كما يقول بعضهم: إنه رب السماء.
على هذا فكسر (ربِّ السماوات) أفضل لأنها تجسيد أشمل وأوسع للربِّ الأولى.
أما (الرحمن) بالرفع فربما هو الأصوب، بلاغياً، لأن كسرها لا يضيف شيئاً جديداً أو مثيراً، بعكس الرفع الذي يعطيه معنى الجلال والهيبة والرهبة، لا سيّما إذا عرفنا أن الرحمن ليست «صيغة مبالغة من الرحمة» كما ظنَّ الطباطبائي، وليست صفة كما ظنَّ الزمخشري. ونحن نذهب إلى ما ذهب إليه الدكتور بهاء الدين الوردي بأن الرحمن كلمة سومرية بمعنى القوي (يراجع بهذا الشأن كتابه الموسوم حول رموز القرآن - فصل الرحمن، وهو من أطرف ما كتب في هذا الباب).
يقول الدكتور الوردي: «وفي القرآن الكريم برهان آخر يدلّنا على أن الرحمن هو القويّ مثلاً (قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن بل هم عن ذكر ربِّهم معرضون) (الأنبياء).فإذا وضعنا كلمة الرحيم مكان الرحمن في الآية لما أدّت المعنى، وكثير من الآيات لا يمكن أن يكون الرحيم فيها مكان الرحمن». ولتوكيد الفكرة يورد الدكتور الوردي ثماني آيات أُخر.
ملاحظات اضافية:
(1) لم نناقش في هذه المحاولة لدراسة السورة، ما طرحه المفسرون من تصورات غريبة عن (الروح) في الآية: (يوم يقوم الروحُ والملائكة صفاً لا يتكلمون إلاّ مَنْ أذن له الرحمن وقال صواباً) (الآية 38) وذلك لأن تحديد (الروح) معنى ورمزاً خارج اختصاص هذه المقالة.
لكن ما يهمّنا في هذه الآيات أصلاً، هو دقّة الانضباط والنظام بدليل كلمة: صفاً، بالإضافة إلى آداب الحديث بدليل: (إلاّ من أذن له الرحمن وقال صواباً.)
على هذا يمكن مقابلة هذه الآية بـ : (يتساءلون) في الآية الأولى و(مختلفون) في الآية الثالثة، أي مقابلة التجانس والانسجام من جهة بالفوضى واللغط من جهة أخرى.
عموماً إنَّ التقابل في سور القرآن أحد معجزاته الاسلوبية.
(2) ذكرنا بعض وجوه معنى: (يوم يُنفخ في الصور) أي في القرن، أو أنَّ الصُّور في هذه السورة بالذات جمع صورة.
الذين استدلّوا من المفسرين على أن الصُّور هو القرن أو البوق، إنما استنبطوها من آيات أخرى. يذكر سعدي أبو حبيب في (القاموس الفقهي لغة واصطلاحاً): الصور: شيء كالقرن ينفخ وفي القرآن: ونفخ في الصور فصعق مَنْ في السماوات ومَنْ في الأرض إلاّ من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون.
إنَّ الاستدلال على ما تحمله (الصُّور) من تصوّر ذهني أو واقعي، شيء مفيد إلاّ قليلاً. المفروض أنْ نرى معنى الصور أولاً وآخراً، في السورة نفسها. ما موقعها؟ ما بلاغتها في التأليف وتركيب الجمل التي قبلها والتي بعدها؟ ما توقيتها؟ وهل اتخذت تصوّراً ذهنياً أو واقعياً جديداً؟ والأهم من ذلك: ما الحواس التي استعملت قبلها وبعدها، إذا نظرنا إلى التأليف على أنه هيكل معماري شديد الاتقان؟
مثلاً، كانت الآيات قبل: (يوم ينفخ في الصور) تصوِّر عن طريق حاسّة البصر مشهداً نباتياً نامياً يمثِّل بذوراً حياتية تنمو إلى أشجار التي هي بدورها تنتج بذوراً إلى ما لا نهاية، وكأن الحياة متواصلة، لا تنقطع أو تموت.
جاء في الموسوعة الإسلامية: وأغلب الظنِّ أن الفكرة الموجودة في التوراة والتي تقول إن الإنسان خلق على صورة (صِلِم) الإله (سفر التكوين الاصحاح 1 آية 27) قد دخلت في الحديث وهي توجد في كتب الأحاديث الصحاح... فعند البخاري (كتاب الاستئذان باب1، انظر مسلم: كتاب الجنّة، حديث 28) نجد هذا الحديث: (خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعاً) لكن يختلف العلماء في هذا التأويل.
يذكر البخاري في كتاب البيوع باب 104، ومسلم في كتاب اللباس 100، (من صوّر صورة فإن الله معذِّبه حتى ينفخ فيها الروح وليس بنافخٍ فيها أبداً). ما يهمنا من هذا الحديث - لغرض هذه المقالة، هو ربط الصورة بالنفخ. وهكذا فالآية: (يوم ينفخ في الصور) منسجمة أولاً مع اعادة دورة الحياة، وثانياً مع القدرة الإلهية على الخلق بواسطة النفخ. ولكن ما المقصود بالنفخ؟
عدّد عبد الصبور مرزوق مصنِّف: «معجم الأعلام والموضوعات في القرآن الكريم»، أنواع النفخ فذكر:
«1- نفخة البعث في سورة يس 51 - 52، والزمر 68
2- نفخة الفزع والصعق في سورة النحل 87
3- نفخة الحشر أو الجمع في سورة الكهف 99 وطه 102، وق 20 - 21 والنبأ 18».
إن نفخة البعث هي ما تعنينا هنا، أي إحياء الشيء الميتّ. وفي سورة يس نقرأ الآيتين الكريمتين:
1- وآية (لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حباً فمنه يأكلون).
2- (وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرّنا فيها من العيون)
لا يخفى ما في الآية الأولى أعلاه، من أرضٍ ميتة أُحييتْ فخرج منها حب، لا ريب أنه يحمل بذرة الحياة، التي ستتوالد.
إن هذه الصورة النباتية، هي أقرب ما يمكن أن يتصوره إنسان عن دورة حياته ومماته هو.
على أية حال، إننا ما زلنا نستعمل تعبير (نفخة ساحر) فمن أين جاء أصلاً.
من ناحية أخرى، جرت العادة لدى بعض قرّاء الأدعية والتعاويذ أنهم ينفخون في وجوه مرضاهم. لماذا؟ كما أن الأفعى - وهي رمز للدواء - تنفث وتنفخ.
من الجدير بالذكر أن ثمة إلهاً سومرياً كان يدعى إله النفخ أو النَّفَس. يذكر الدكتور بهاء الدين الوردي من بين ما ذكره عن السومريين أنهم عبدوا (الإله المدوّر) وهو على شكل حيّة تأكل ذنبها.
(3) تنتهي السورة بالآية: (يوم ينظر المرء ما قدّمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً).
لم يذكر المفسرون أن السورة ابتدأت بجمهرة من الناس بدليل: يتساءلون، ومختلفون ويعلمون، وانتهت بصيغة المفرد في أشدِّ عزلة: ويقول الكافر يا ليتني وما من أحد يستجيب لما تمنّاه أي أن يكون تراباً.
بالإضافة إلى ذلك، ثمة دلالة عميقة للغاية في الجزء الأوّل من الآية (يوم ينظر المرء ما قدّمتْ يداه) وذلك لأن حاسّة بصر الكافر هي التي تشهد عليه، وهي التي تريه ما قدّمت يداه. بينما كانت حاسة البصر نفسها، هي التي أنكرت في بداية السورة، أو أنها لم تُرِدْ أن تتيقن مما ترى من أشياء مادية ملموسة، مثل (الأرض مهاداً) و (الجبال أوتاداً...) الخ
على الرغم من أن: (يا ليتني كنت تراباً) أقصى وأتعس ما كان يتمناه الكافر، إلاّ أن المفسرين حمّلوها أكثر مما تحتمل، وما حمّلوها به، لا يمكن أن يقبل كحقائق. في الواقع إن ما ذكره بعض المفسرون يدخل في باب الخرافة وشطط الخيال. يبدو أن سوء الفهم بدأ أصلاً بسوء فهم ما نقله الطبري - من بين ما نقل - عن «أبي كريب قال ثنا المحاربي عبد الرحمن بن محمد عن إسماعيل... عن أبى هريرة أن الرسول (ص) قال: يقضي الله بين خلقه الجن والإنس والبهائم وإنه ليقيد يومئذ الجماء من القرناء حتى إذا لم يبق تبعه عند واحدة لأخرى قال الله كونوا تراباً فعند ذلك يقول الكافر يا ليتني كنت تراباً... الخ»
لقد درج معظم المفسرين على فهم الاقتصاص للشاة الجماء من الشاة القرناء فهماً حرفياً، فراحوا ينسجون حول ذلك قصصاً وخيالات،وكأنهم شهدوا من قبل ما كان يجري يوم القيامة.
يبدو - وهو أكثر احتمالاً ومعقولية - أن الاقتصاص للجمّاء من القرناء مجرد تعبير مجازي، يفيد الانتصار للمظلوم من الظالم.
أكملت السورة تطورها العضوي بـ (يا ليتني كنت تراباً) وكأنها جواب لما ابتدأت به السورة من لغط المتسائلين وجدلهم واختلافهم. أي انتقلت السورة من جمهرة صاخبة إلى مفرد لا يتمنى إلاّ أن يكون بلا حسّ ولا إرادة وتذروه الرياح.