ترجمة: أحمد فاضل
في أكتوبر / تشرين الأول 1820 ، اندلع التيفوس في نابولي بإيطاليا ، حينما كان الشاعر البريطاني جون كيتس مع صديقه الفنان جوزيف سيفيرن هناك ، كانت رحلته هذه خارج إنكلترا هرباً من برودة الجو ،
إلى المناخ المشمس في إيطاليا بسبب سعاله الذي كان يزداد سوءاً بشكل مطرد ، منذ ذلك الصباح الذي شهد فيه بقعة دم على وسادته ، كان يعلم أنه ليس لديه فرصة تذكر للنجاة من هذا المرض الذي غزا رئتيه ، فكانت محاولته الأخيرة الذهاب إلى روما ، لكن دون أن يشعر أنه سيكون منفاه الأخير هناك .
وهو يصور في إحدى كتاباته كيف عاش لحظات ذلك الحجر القسري الذي امتد طوال أكثر من عشرة أيام قبل أن يرحل إلى الأبدية ، وكأنه يكتب آخر كلماته :
" لقد رأيت نابولي ،كأنها سفينة رأسية بالقرب من البحر ، واحدة من أكثر المواقع جمالاً وهي تطل على الساحل بعرائش المشمش ، القرمزي ، السماوي والورد الأزرق ، أما فيزوف فهو يرنو إليها دون أن يعكر صفوها بحممه ، أما أنا :
قد تبدو 10 أيام من الحجر القسري حرماناً منها ، جمالها ، مياهها وكل ما فيها من أماكن " .
أتخيل أن كُتاب السيرة الذاتية المستقبليين ممتنون لأن كيتس استغرق الأيام القليلة تلك ، في كتابة رسائل موجزة عن نشأته التي لم يحبها على الإطلاق ، حيث كان يتوقع أن يموت في كل لحظة منذ ولادته بسبب مرضه ، وعدم الاستقرار ، والفقر ، والمعارك المستمرة مع المتنمرين الذين كانوا يضايقونه بسبب " حجمه القصير " ، وبعد مرحلة شبابه المبكر الصعب والمأساوي ، حاول التدرب على قهر المرض الذي ألم به ، كانت تجربة شنيعة ، تلتها سنوات تدريب أخرى في مستشفى جاي ، يومها وقع في حب الشعر وقضى كل وقت فراغه في الدراسة ، حيث شق طريقه إلى الحياة الأدبية وأراد فقط أن يكون اسمه " بين الشعراء الإنكليز الأكثر شهرة " .
وأنا أقرأ رسائله أدهشتني فترة وجيزة من حجره الصحي ، كان كيتس ، البالغ من العمر 25 عاماً تقريباً آنذاك ، لديه أربعة أشهر فقط للعيش وشعر بأنه وهو يكتب :
" غير ذي أهمية ، كما لو كان وجودي بالكامل يعني وفاتي ". بالنسبة للقراء الكثيرين مثلي ، فإن قصة حياته ستكون لها وجود أبدي أيضاً ، فمن رسائله في حجره الصحي نجت رسالة معنونة للسيدة براون والدة فاني الشابة التي أحبها والتي لن يراها مرة أخرى ، كتب يقول :
" يا له من حساب ، يمكنني أن أعطيكِ من خليج نابولي إذا استطعت أن أشعر مرة أخرى بأنني مواطن في هذا العالم ، أعطي حبي لفاني وأخبرها ، هناك ما يكفي في هذا الميناء لملء كمية من الورق ، ولكن يبدو وكأنه حلم " .
أربع أوراق كبيرة مطوية لإنشاء 24 صفحة ، تخيل أنه قام بتغطيتها بأوصاف للمدينة القريبة جداً على المياه المتلألئة ، نابولي قمر يتأرجح ، يلقي بريقاً فضياً على القباب ، الأجراس البعيدة التي يتردد صداها في البحر ، الهواء الرطب الدافئ الذي يجعله يتنفس بعمق ، في الحجر الصحي ، واجه توقفاً كاملاً ، وجد رغبة جامحة في الحياة ، ترك وراءه الشاب المليء بالحيوية والرومانسية ، الذي تودد إلى الكآبة في قصائده ، الآن ، ها هو هذا الخليج الرائع لا توجد طاقة على الكتابة عبره .
في رسالة مكتوبة بعد وقت قصير من نزله هناك ، كان ذعره يضرب مثل طائر عالق في غرفة ، لا يمكنه أن يتخيل أنه لن يرى فاني مرة أخرى :
" أخشى أن أكتب لها - لتلقي رسالة منها - لرؤية خط يدها من شأنه أن يحطم قلبي ، حتى أن اسمها على أي حال ، المكتوب سيكون أكثر مما أتحمله " .
عبر 200 سنة ، لا يزال القلق يتذبذبني ، أتساءل عما إذا كان شعره قد تغير ، أتطلع إلى ما أسماه كيتس بالقدرة السلبية ، عندما يكون المرء :
" قادراً على أن يكون في حالة من عدم اليقين ، أو الألغاز ، أو الشكوك ، دون أي توصل عصبي بعد الحقائق والأسباب " .
في النهاية ، هذه هي وجهة نظري ، يمكن أن تتغير الحقائق والأسباب التي جعلت ذلك الحِجر الذي عاشه كيتس ومنه رحل ، يترك كل تلك القصائد والخطابات ، تحمل كل هذا الخلود .
* فرانسيس مايز، أستاذة جامعية أمريكية وشاعرة وكاتبة مقالات وروائية ، ولدت ونشأت في فيتزجيرالد ، جورجيا ، حصلت على درجة البكالوريوس من جامعة فلوريدا ، في عام 1975 حصلت على درجة الماجستير من جامعة ولاية سان فرانسيسكو ، حيث أصبحت في النهاية أستاذاً للكتابة الإبداعية ، ومديرة مركز الشعر ، ورئيساً لقسم الكتابة الإبداعية ، الآن وهي تكتب بدوام كامل ، هي وزوجها الشاعر يقسمان وقتهما بين منازل في هيلزبورو ونورث كارولينا وكورتونا بإيطاليا ، حيث تعمل كمدير فني لمهرجان توسكان صن السنوي .
عن / صحيفة الإندبندنت البريطانية