د. خالد السلطاني/معمار وأكاديمي
لا تُذكر عمارة مبنى <سنترو سيوز>: "مركز الاتحاد" في موسكو (1928 – 1936) دوماً في أدبيات الحداثة المعمارية وتاريخها،
رغم ان مصممها هو "لو كوربوزيه" (1887 – 1965)، أحد أساطين عمارة الحداثة ومنظرها اللامع. ثمة شُبه تغاضٍ لوجودها وغياب تام لقيمة مقاربتها المعمارية الجديدة، هي التي استطاعت بحضورها المميز أن تؤسس للحداثة المعماريةـ وأن تكون إنموذجها الرائد والطليعي. وقد يكون موقعها الجغرافي باعثاً لهذه الحالة، الذي ما انفك مزاج "الثقافة "المسيسة" الموارب، الذي ساد طويلاً المشهد الثقافي وخطابه يفرض أحكامه وقيمه على نوعية الكتابات وعلى اختيار مواضيعها وحتى على نوعية استنتاجاتها. وحالة "التسييس" المعماري، حالة رائجة، مع الأسف، في الكثير من الكتابات التى تتعاطى مع المنتج المعماري ورموزه. وقد أشرت، مرّة، الى غفل "مسار معماري كامل " وإسقاطه من ذاكرة العمارة الاسلامية، رغم أهمية نماذجه التصميمية وطليعيتها (وأنا أعني بذلك < عمارة بلاد ما وراء النهر>) لسبب واهٍ، بحجة وقوع جغرافية تلك العمارة ضمن أراضي الاتحاد السوفيتي السابق، كما يمكن الاتيان بأمثلة أخرى عديدة من التجاهل المتعمد وأنواع كثيرة من التجاوز والتغاضي إرضاءً لتلك الحالة السقيمة إياها. بالنسبة اليّ، شخصياً، تبقى عمارة المبنى، ومعمارالمبنى، ومعماره المساعد (وخصوصاً معماره المساعد: "نيقولاي ياكفلوفتش كوللي" (1894 – 1966) Nikolai Yakovlevich Kolli، الذي سأشير اليه لاحقاً) من الأحداث التي لا تمحى بسهولة من ذاكرتي المعمارية واهتماماتي المهنية.
عندما أعلنت مسابقة معمارية لتصميم مبنى "سنترو سيوز" <مركز الاتحاد> في موسكو سنة 1928، اشترك فيها غالبية المعماريين السوفيت بكل مقارباتهم وأساليبهم التصميمية من أنصار تيار "الكونستروكتفيزم" الطليعي، الى مريدي الاساليب الكلاسيكية، كما دعي لها معماريون أجانب من الخارج بضمنهم "لو كوربوزيه". و"مبنى الاتحاد"، هو مبنى إداري ضخم جداً، في مقاييس تلك الأوقات، يستوعب 3500 موظف ومنتسب، شغلته لاحقاً وزارة الصناعات الخفيفة، ومن بعدها وزارة صناعة النسيج، ثم آل مؤخراً الى "هيئة الاحصاء لعموم الاتحاد السوفياتي"، وتشغله الآن "هيئة احصاء روسيا الفيدرالية". ويحتل موقعاً في وسط موسكو تحيط به الشوارع من كل جهاته الاربع. وكانت المسابقة المعارية التى نظمت وقتذاك بحيث تتضمن ثلاث مراحل، في نتيجتها فاز التصميم المقدم من قبل مكتب "لو كوربوزيه". معروف أن المعمار الفرنسي، امتلك علاقات مهنية جيدة مع المعماريين السوفيت، وخصوصاً أولئك الذين يشاطرونه الرؤى والمقاربات. وقد زار موسكو عدة مرّات والتقى باصدقائه المعماريين السوفييت وأجرى حوارات مهنية معهم. ومثلما أثرت طروحاته المعمارية الجديدة على عمل كثر من المعماريين في موسكو، وقع هو أيضاً تحت تأثير أفكار المعماريين السوفيت التي كانت وقتها طليعية ورائدة وخصوصاً مفاهيم "الكونستروكتفيزم"، (التي ذهبت "زهاء حديد"، مرة، بعيداً في الإشادة بهم، عندما صرحت بأن أسلوبها التصميمي "يكمل" ما "انتهى" إليه <الكونستروكتفيزم!>). معلوم أن "لو كوربوزيه" شارك أيضاً في تقديم مقترحه التصميمي في المسابقة العالمية التى نظمت في موسكو سنة 1931 لتصميم "قصر السوفيت": المقر الرئيس للبرلمان السوفياتي ومكان انعقاد الاجتماعات الحكومية المهمة. وأدهش المعمار الجميع بتصميمه المقترح هذا لجهة كشف أنماط المنظومات الانشائية للمبنى، وإبرازها من خلال خليط من تنويعات تعود الى أساليب لتراكيب إنشائية "عارية"، استطاعت أن تحدد نوعية فراغات المبنى وتمنحها، بالتالي، صيغ تشكيلاتها الفضائية. ووجد كثر من النقاد في هذا المنحى التصميمي تأثيرات "الكونستروكتفيزم" الروسي على صياغة الحلول التكوينية – الفضائية للمشروع المقدم. لكننا سوف لن نسترسل كثيراً بالحديث عن ذلك التصميم الاستثنائي، الذي ساهم مع تصميم "مركز الاتحاد"، ضمن تصاميم آخرى معدودة، في تغيير الذائقة الجمالية لإدراك قيم "العمارة الجديدة" وتأشير بدء مرحلة تأسيسها؛ وسنولى الاهتمام، هنا، الى عمارة "مركز الاتحاد" مكرسين هذه الحلقة من "عمارات" لها.
ينبني مسقط مبنى "مركز الاتحاد" من مجموعة أشكال هندسية منتظمة بشكل عام، مخصصة لايواء وظائف متنوعة تستجيب لمتطلبات المنهاج التصميمي. استطاع " لو كوربوزيه" أن يربط تلك الأشكال الرئيسة الواحدة بالآخرى عبر فضاءات ثانوية وخدمية (مرافق صحية وعناصر الحركة العمودية وفسحات فراغية متنوعة)، كما تمكن من فرز المتطلبات الى أصناف وظيفية متنوعة، شملت، أساساً، أحياز المكاتب والبهو المركزي والقاعة الرئيسة متعددة الأغراض التي تستوعب 600 شخص ومتطلباتها، إضافة الى الخدمات بضمنها عناصر الحركة العمودية، والأخيرة تحضر بشكل أساس بأسلوب "المراقي" (جمع مرقاة) Ramp: المفردة التصميمية للحركة العمودية المحببة الى قلب لو كوربوزيه! ثمة ثلاث كتل لبلوكات مخصصة للموظفين ، الطويلة منها تمتد على امتداد "شارع كيروف" وهي بطول حوالي 120 متراً، والبلوك الثاني من جهتها اليمني بطول يناهز 40 متراً، أما البلوك الثالث الأيسر فإنه بطول حوالي 100 متر وتشغل القاعة الرئيسة ومدخلها الرئيس الجهة المطلة على الشارع الخلفي الذي يسمى الآن "جادة الاكاديمي ساخروف". يرفع المعمار مبناه في الطابق الأرضي كله بواسطة أعمدة ، بحيث يمكن المرور تحت المبنى بسهولة والعبور الى الجهات الاخرى (اغلقت فضاءات هذا الطابق أثناء التنفيذ). ومن الأمور اللافتة الحاضرة في التصميم، أسلوب الواجهة الزجاجية، ومفردة السقف المستوي، بمعنى آخر، تتمثل في هذا المبنى، ولأول مرة، وبمقياس ضخم جميع <النقاط الخمس>، التي أوردها لو كوربوزيه في كتابه المهم "نحو العمارة" الصادر سنة 1923. وهذه النقاط وفقاً لأطروحة "لو كوربوزيه" هي المبادئ المحددة لمفهوم "العمارة الحداثية" وهي باختصار شديد: 1 - رفع المبنى عن الأرض بواسطة الأعمدة أو المساند، 2 - السقف المستوي/ الحديقة، 3 - المخطط الحر، 4 - النافذة الشريطية، و5 - الواجهة الحرة.
ولكي تحضر اشتراطات "الواجهة الحرة"، على سبيل المثال، في مبنى "مركز الاتحاد" لجأ لوكوربوزيه الى "دفع" الأعمدة الحاملة للتسقيف نحو الداخل بمسافة 1.25 متر عن الحدود الخارجية لمسقط المبنى، بغية الحصول على إمكانية معالجة الواجهات بصورة منفصلة ومستقلة عن محددات المنظومة الانشائية، وفي الوقت ذاته، يضمن حضور الشرط الآخر وهو شرط "النافذة الشريطية". فالمعمار الطليعي استطاع أن يوظف إمكانات مادة الخرسانة الجديدة وخصائصها بأسلوب تصميمي كفء وبمهارة عالية، متخطياً بذلك حتى أسلوب أستاذه "اوغست بيريه"، حينما تمكن من النأي بعيداً عن نمط تعاقب موقع فتحة النوافذ ثم يليها جزء الجدار المصمت وتتبعها فتحة آخرى ثم جزء مصمت وهكذا..مقترحاً نظام النافذة الشريطية الممتدة على طول الجدار التي وفرتها الخرسانة ومنظومتها الإنشائية. وقد أًعتبر حضور تلك القيم الجديدة في عمارة مبنى "مركز الاتحاد" بمثابة حدثاً تصميمياً لافتاً وجريئاً لم يكن له نظير في الممارسات البنائية السابقة. وفي العموم فإن بزوغ عمارة "مركز الاتحاد" ومثولها في المشهد المعماري العالمي بالحجم والمقياس الضخمين اللذين وسما المبنى، عُد بمنزلة الظهور الأول للحداثة المعمارية وبدء تأسيسها الواقعي. ولم تقتصر أهمية عمارة "مركز الاتحاد" على هذا الجانب التأسيسي، وإنما أمست نقطة فاصلة في النتاج الإبداعي الخاص للمعمار نفسه، وحافزاً للكثير من الإبداعات التصميمية التي كرست اسم لوكوربوزيه كأسم مهم ومؤثر في المشهد المعماري العالمي وخطابه. ولعل تصاميمه التي اعقبت "مركز الاتحاد" مثل "الجناح السويسري" (1930) بباريس، ومبنى "جيش الخلاص" (1929 -1933) في باريس أيضاً، وكذلك دوره الاستشاري في تصميم "وزارة التربية الوطنية والصحة العامة" (1936) في ريو دي جانيرو بالبرازيل، وحتى مبنى "هيئة الأمم المتحدة" (1947- 1952) <الذي كانت مساهمته استشارية بالتصميم أيضاً>، فإن جميع حلولها التكوينية ولغة عمارتها المميزة والحداثية تعود بمرجعيتها التصميمية الى ذلك المبنى الموسكوفي!
يقع "مبنى الاتحاد"، كما أشرت قبل قليل، في وسط مدينة موسكو، غير بعيد عن موقع "مدرسة موسكو المعمارية"، المدرسة التي درست العمارة فيها بالستينيات، والتي تقع هي الأخرى في ذلك الوسط التاريخي. وكنت، لفرط إعجابي واهتمامي العميقين "بمبنى الاتحاد" إياه، أعرج أحياناً كثيرة عليه قبل الذهاب الى مدرستنا، متمتعاً بجمال عمارته الفريدة، المختلفة جداً عن سياق مجاوراته، هي التي كانت تثير لدي الدهشة والذهول، في كل مرة أشاهدها، لجهة قوة ونفاذ بصيرة المعمار وفطنته واستشرافه الثاقب للعمارة الآتية ولغتها المستقبلية. وقد زاد اهتمامي بتلك العمارة، عندما تعرفت على أستاذ، كان يزور مدرستنا بين فترة وأخرى، وهو "نيقولاي كوللي" (الذي ورد اسمه في بدء المقال)، وقد كان الساعد الأيمن الى لوكوربوزيه وشغل منصب "المعمار المحلي" وقتذاك في الموقع الموسكوفي حيث اشرف على تنفيذ مبنى "مركز الاتحاد". كما أن "كوللي" (وهو معمار سوفيتي، طبعاً، من أصول أسكتلندية)، بات أقرب اليّ عندما رأسَ يوماً ما، من أيار عام 1966 لجنة الامتحان والمناقشة الاكاديمية لمنحي شهادة الماجستير بالعمارة، وحديثه الودي نحوي المفعم بالعاطفة والتمنيات التي لا يمكن أن أنساها، والتي قادت، لاحقاً، للتعرف شخصياً إليه كإنسان وكمهني. وقد توفي بصورة مفاجئة في الثالث من كانون الأول 1966 في موسكو، وكنت حينها في بغداد!
في زيارتي الأخيرة الى موسكو (تموز 2016)، سارعت بالطبع، لزيارة المبنى الأثير لديّ في شارع يسمى الآن "شارع ميسنيتسكويا". لقد أضيف قبالة المبنى وعند رصيف جواره "تمثال" الى لوكربوزيه من عمل النحات الروسي "أندريه تيرتيشنيكوف" في اكتوبر 2015 . ويبدو المعمار في ذلك النصب وهو جالس يفكر ملياً في تصاميم لمشاريع مستقبلية مفروشة مخططاتها أمامه! ورغم عمارة المبنى الاستثنائية التى ما انفكت تثير الإعجاب والدهشة لناحية حداثتها النضرة، والتي عُدّت، يوماً ما، "رائدة" العمارة الحداثية، فإنها ما فتئت مغيبة، ولا يرد ذكرها في غالبية الدراسات التي تتعاطى مع تاريخ الحداثة المعمارية!
وشارل ادورد جانيريه- غري، هو اسم "لو كوربوزيه" الحقيقي، المولود سنة 1887، في سويسرا، كان والده "مزخرفاً" ورساماً للساعات. وفي عمر 13 سنة، ترك الدراسة في المدرسةـ لينضم الى ورشة "الفن التزييني" في مدينته <لا- شو دي- فون>، متتبعاً خطى والده، ليتدرب على عمليات حفر وتزيينات الساعات. إلا أن أستاذه في الورشة أقنعه أن يكون "معماراً" وفي سنين ما بين 1906 و1914، تجول لوكوربوزيه كثيراً في أوروبا دارساً عمارتها، وزار إيطاليا، وفرنسا، واستراليا وألمانيا وبلغاريا واليونان ووصل الى تركيا. والمعروف عنه بانه لم يدخل ولم يتعلم في أية مدرسة معمارية. استقر منذ 1917 في باريس، وفي سنة 1920، غيّر لقبه من جانيريه الى "لو كوربوزيه" (وهو لقب جده من طرف والدته)، مجارياً بذلك "نزوة" Freak مثقفي فرنسا في العشرينيات في تغيير الألقاب! في سنة 1922 افتتح له مكتباً معمارياً، مع ابن عمه "بير جانيريه" الذي رافقه طيلة حياته المهنية. يعد واحداً من أهم معماريي القرن العشرين، وهو بالإضافة الى كونه معماراً مجدداً، فهو منظر ورسام وكاتب. وفي سنة 1965، عندما كان في الريفيرا الفرنسية، توقف قلبه فجأة عندما كان يسبح، ومات. صمم "القاعة الرياضية المغلقة" في بغداد سنة 1956، ضمن مشروع رياضي طموح شمل أيضاً ملعباً واسعاً لكرة القدم. تم تنفيذ القاعة لاحقاً مابين 1979 - 1982 عند موقع ملعب الشعب.