اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > باليت المدى: العجوز ديريك وكلبه الصغير

باليت المدى: العجوز ديريك وكلبه الصغير

نشر في: 7 يونيو, 2020: 07:32 م

 ستار كاووش

قبل الساعة الثامنة ببضع دقائق، كنتُ أقفُ صباح كل يوم في محطة الباص الذاهب من قرية آنسين التي أعيش فيها بإتجاه مدينة هوخفين حيث درينته كولج، لدراسة اللغة الهولندية.

كان الباص يتوقف عند عدة محطات في القرى الصغيرة التي تقع على إمتداد الطريق، ومنها قرية أختين التي ما أن يتوقف الباص في محطتها، يظهر ذلك الرجل الذي ينتظر كل يوم في ذات الوقت، رجل مُسنٌّ طويل القامة، يحمل بإحدى يديه كلباً صغيراً بلون معطفه الداكن. وبما أن القانون الهولندي يتيح لمن تجاوز الخامسة والستين من العمر، صعود الباص مجاناً دون الحاجة لقطع تذكرة، لذا كان الرجل معتاداً على تحية السائق الذي يعرفه عن ظهر قلب، ثم يمضي للجلوس واضعاً كلبه بين أحضانه، مدثراً إياه بمعطفه الذي يبدو أنه لم يتغير منذ وقت طويل، وهكذا يستقر في مقعده ساهماً وهو ينظر من نافذة الباص نحو حقول درينته مترامية الأطراف. مع الأيام ترسخت في ذهني ملامح الرجل وطريقة اعتناءه بكلبه الصغير، حتى جاءت المرة التي صعد فيها وسار بضع خطوات داخل الباص، ليقف بمحاذاتي ثم يجلس بجانبي بعد أن ألقى التحية. يبدو أنه كان أيضاً يعرف شكلي الذي تكرر عليه مراراً، رمقته بطرف عيني،فتحسستُ في ملامحه مسحة ذكاء فطري، لكن بدا وحيداً ومنعزلاً، وبما أنه يعيش في عالم محدود صحبة كلب صغير، لذا حدستُ أنه يبحثُ عن أحدٍ يشاركه الحديث. تفرَّسَ بملامحي مع إبتسامة شاردة وهو يتظاهر بالنظر الى حقول الذرة الممتدة على الطريق، وحين وصل الباص الى منطقته المعتادة، حيّاني برأسه ومضى خارج الباص واضعاً كلبه الصغير بمهل على العشب وسارا سوية. 

وهكذا عرف الرجل طريقه اليَّ، فقد جاء في اليوم التالي وجلس مباشرة بجانبي تصحبه إبتسامة أكثر ثقة من إبتسامة اليوم السابق. ولم تمضِ لحظات حتى جاءت المعجزة، حيث سألني سؤالاً غير متوقع (الجو جميل هذا اليوم، كيف تتوقع المناخ الآن في التشيك؟) فأجبته بدون اكتراث (أعتقد أن الجو جيداً هناك هذا اليوم)، عندها تعارفنا وقدم لي نفسه (ديريك)، قبل أن يصل الى محطته المعتادة ويتهادى خارج الباص. وفي اليوم الذي بعده إستقر أيضاً بجانبي وسألني (كيف أحوال أمك وأبيك؟) فشكرته وقلت إنهما بخير، وهكذا في اليوم اللاحق سحب خطواته من جديد ليجلس بجانبي، وبعد أن داعبتُ كلبه قليلاً سألني (ماهي الأخبار في التشيك؟ هل ترى أن الأمور جيدة هناك؟) فأجبته على طريقة همنغواي (كل شيء هادئ في التشيك). وهكذا مرت أيام وهو لا يتوقف عن سؤالي عن التشيك وما يتعلق بهذا البلد، حتى طرح عليَّ سؤاله الذي لم أنتظره أبداً (كيف إخبار والديك في التشيك) فأجبته دون مبالاة بأن أبي وأمي لا يعيشان في التشيك، فعاد لسؤالي وهو يتهيأ للنزول من الباص (هل تقصد بأنهما قد أنتقلا من التشيك الى بلد آخر بسبب الظروف؟) فأجبته وأنا أغلي من الداخل لكني تظاهرت الهدوء (والداي لم يكونا يوماً في التشيك ولا يعرفان هذا البلد) وهنا إستدار نحوي وتراجع قليلاً وهو يمسك كلبه بإحكام قائلاً (ألستَ تشيكياً؟! منذ أسابيع وأنت تخبرني عن الأحوال في التشيك وعن والديك، وكنت تجيبني على كل تساؤلاتي) فقلت له (نعم كنت أجيبك على ذلك لأن أسئلتك كانت عامة وتبدو لتمضية الوقت). 

في الحقيقة، كنتُ قد شككتُ بأسئلته وتصوره الخاطئ، لكني تركته يعيش وسط هذا الإيهام وهذه المتعة التي كنتُ أراها على ملامحه خلال الدقائق التي كان يقضيها معي. وفي صباح اليوم التالي أخذتُ مكاني في الباص كالعادة، وقد شغلتني حكاية هذا الرجل واستعدت صورته مع نفسي، متسائلاً إن كان ذكياً جداً أم مرتبك ذهنياً أو ربما كان يتسلى لتمضية الوقت، وأنا على هذا الحال، إنبثق العجوز ديريك من جديد، واندفع داخل الباص وهو يخبيء كلبه الصغير تحت معطفه ليحميه من المطر، تفحص الوجوه وكأنه يبحث عن شخص معين، وحين وقع بصره عليَّ، ابتسم وتقدم ليجلس بجانبي، مختصراً جملة صباح الخير بكلمة صباح فقط كما يفعل غالبية الهولنديين، ولم تمضِ ثوان حتى خفض رأسه نحو صدره ورفع بصره نحوي وسألني بهدوء وخبث (الجو لطيف هذا اليوم، كيف تتوقع المناخ الآن في رومانيا؟)، رومانيا!! كدت أقفز من هول سؤاله الجديد، لولا أنه نظر اليَّ وأطلق ضحكة عالية التَفَتَ بسببها نحونا بقية الراكبين وحتى السائق الذي رمقنا بمرآة الباص الأمامية، فيما أخرج الكلب الصغير رأسه خارج المعطف وهو ينبح بطريقة متناغمة مع ضحكة صاحبه.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

وجهة نظر عراقية في الانتخابات الفرنسية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: هناك الكثير منهم!!

 علي حسين في السِّيرة الممتعة التي كتبتها كاترين موريس عن فيلسوف القرن العشرين جان بول سارتر ، تخبرنا أن العلاقة الفلسفية والأدبية التي كانت تربط بين الشاب كامو وفيلسوف الوجودية استبقت العلاقة بين...
علي حسين

كلاكيت: الجندي الذي شغف بالتمثيل

 علاء المفرجي رشح لخمس جوائز أوسكار. وكان أحد كبار نجوم MGM (مترو غولدوين ماير). كان لديه أيضا مهنة عسكرية وكان من مخضرمين الحرب العالمية الثانية. جيمس ستيوارت الذي يحتفل عشاق السينما بذكرى وفاته...
علاء المفرجي

من دفتر الذكريات

زهير الجزائري (2-2)الحكومة الجمهورية الأولىعشت أحداث الثورة في بغداد ثم عشت مضاعفاتها في النجف وأنا في الخامسة عشرة من عمري. وقد سحرتني هذه الحيوية السياسية التي عمّت المدينة وغطت على طابعها الديني العشائري.في متوسطة...
زهير الجزائري

ماذا وراء التعجيل بإعلان "خلو العراق من التلوث الإشعاعي"؟!

د. كاظم المقدادي (1)تصريحات مكررةشهدت السنوات الثلاث الأخيرة تصريحات عديدة مكررة لمسؤولين متنفذين قطاع البيئة عن " قرب إعلان خلو العراق من التلوث الإشعاعي". فقد صرح مدير عام مركز الوقاية من الإشعاع التابع لوزارة...
د. كاظم المقدادي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram