TOP

جريدة المدى > سينما > فيلم كابوني .. مدارات الوهم الإنسانيّ

فيلم كابوني .. مدارات الوهم الإنسانيّ

نشر في: 10 يونيو, 2020: 06:02 م

عبد المنعم أديب

"أتعرف ما الفارق بين هتلر وآل كابوني؟ .. هتلر مات، أمَّا كابوني فيعيش كالمَلِك في فلوريدا. رُبَّما هو مجنون، ورُبَّما لا ..

كل ما أعرفه أنَّه رجل يقضي حياته في الكذب على الجميع بينما الحقيقة تتعفَّن في صدره" قال هذه الكلمات مُحقق الشرطة الذي كانت مهمته مراقبة "آل كابوني". وفي قوله هذا دلالة على فحوى الفيلم من جهة، ومن جهة خفيَّة نرى منها محققًا يراقب مُجرمًا عتيدًا لكنَّه في الوقت نفسه أمام المجتمع رجل أعمال شريف يعمل لنفع أمَّته. عاش على هذا الوصف ومات عليه؛ فكم من مجرم أثيم هو أمام المجتمع نجم لامع!

فيلم " Capone " أو "آل كابوني" خرج إلى النور في العام 2020 بعد تحضير استمر أربع سنوات، وبعد تغيير الاسم من "فونزو" إلى الاسم الحالي لدواعٍ تسويقيَّة كما اشتُهر. ولمْ يخرج إلى نور السينما الحقيقيَّة بسبب تفشِّي مرض "كوفيد 19"، وتمَّ الاكتفاء بعرضه عن طريق البثّ المباشر على منصَّات البثّ حسب الطلب. الفيلم من تأليف وإخراج جوش ترانك، ومن بطولة توم هاردي، ليندا كارديلني، مات ديلون، نويل فيشر، وآخرين. الفيلم من تصنيف دراما، سيرة، غموض. وقد ترك الفيلم أثراً سيئاً على صعيد تقييماته النقديَّة؛ مما يجعلنا نحاول بهدوء تجلية الأمر.

يدور الفيلم حول "آلفونس جابرييل كابوني" الذي يُختصر إلى "آل كابوني". وهو مجرم شهير نشط في حقبة أوائل القرن العشرين، ولقي مصيره قابعاً في السجن من أوائل الثلاثينيات. ثمَّ أفرج عنه وتمَّ إيداعه في قصر مهيب في ولاية "فلوريدا" ووضع تحت المُراقبة. بدأ "كابوني" حياته الإجراميَّة من الصفر إلى أنْ أصبح أحد أكبر الوجوه الإجراميَّة؛ فمن حراسة بيوت الدعارة -حيث أصيب هناك بمرض الزهري- إلى أحد كبار الأغنياء الذين يُغرقون البلاد بالجريمة والفساد والقتل مُستعينين برشوة الجميع في دوائر الدولة، والاحتياط البالغ لأفعالهم.

يبدأ الفيلم في آخر شهور من عُمر "كابوني" في عام 1946؛ حيث تزداد حالة المرض "الزهري العصبي" عليه. هذا المرض يؤدي إلى تشوهات جسديَّة وعقليَّة بالغة، وقد أدى بشخصيتنا إلى مراحل عميقة من حالات الخَرَف والذهول والانفصال عن واقعه. في الفيلم نرى اجتماع الأسرة في القصر في أجواء عيد الشُّكر. ونتعرَّف على بعض من أسرة الرجل، ونبذة عن مجيء أسرته الإيطاليَّة إلى أمريكا -كما عشرات الآلاف الذين تدفقوا إلى هناك- ليلاقوا الفقر والجوع، ويناضلوا نضالاً واسعاً للحصول على مكانة أو بعض الحقوق. وكيف أنَّه نجح في بناء أسرة غنية لذلك ها هم يجتمعون ليعلنوا عن بعض الشكر لما وصلوا إليه.

وفي ظلّ الإشارات إلى التردِّي العام الذي أصاب الأسرة بعد رفاهٍ وترف، منها أحاديث عن الذكريات، ووجود عُمَّال ينقلون التحف واللوحات النفيسة لبيعها، ونظرات الحسرة وجو الكآبة العامّ على الجميع. في تلك الظلال القاتمة يبدو الأمل الوحيد للجميع في حصولهم على مبلغ كبير من المال يُقدَّر بعشرة ملايين دولار يبدو من كلامهم أنَّ "كابوني" قد خبَّأه بعيداً عن الجميع تحسُّبًا للزمن. يظهر أنَّ جميع من في الأسرة يسعون وراء المال الذي لا يعرف أحد مكانه إلا صاحبه والذي لسوء الحظّ مُصاب بكل علل الحياة الجسمانيَّة منها والعقليَّة. ثم يظهر أنَّهم ليسوا وحدهم الساعين وراءه، بل الشرط الفيدراليَّة أيضًا تشاركهم السعي. ويزيد الوضع غموضًا أنَّ الجميع -الشرطة والأهل- كلهم في حيرة ما بين الشك واليقين في أنَّ الرجل يخدعهم ويمثِّل عليهم حالات الجنون والخرف. فهل ستتغير حالة الشكّ تجاهه؟ وما الذي يراه كابوني في هذيانه؟ وإلام سيؤول أمر الرجل؟

الكثير من الأشياء تفرض مناقشتها في فيلمنا هذا؛ ولعلَّ هذا الغموض الذي يحيط بأشياء كثيرة كان السرّ وراء التراجع النقديّ للفيلم. ولكنَّ محاولة أخرى لنْ تضرَّ للوقوف على حقيقة العمل الذي نشاهده. سيكون التناول مُحدَّدًا وفي نقاط واضحة المعالم حتى لا نقع في الاختلاط الذي بالفيلم. فالعمل الفنيّ من حقِّه أنْ يمزج والعمل النقديّ إحدى واجباته فصل المُتمازج ورؤيته مفكَّكًا مرةً ومُترابطًا في سياق كُلِّيّ عديد المرَّات.

أول ما يقابلنا هو تصنيف الفيلم فالتصنيف الأقرب للدقة هو أنَّه فيلم دراما، سيرة، غموض. ليس فيلم غموض اعتماداً على مسألة البحث عن الكنز المفقود؛ لأنَّ الكنز لمْ يستخدمه صانع الفيلم إلا كمُحرِّك دراميّ للسياق العامّ الذي هو بدوره غير مقصود من الفيلم قصداً، بل هو نفسه مُحرِّك ثانٍ للحدث الرئيسي في الفيلم وهو ما يحدث داخل عقل البطل ونفسه، وعلاقاته بالآخرين.

وهو فيلم سيرة لاعتماده على سيرة أحدهم وليس لأنَّه يسردها؛ فالفيلم أصلاً لمْ يَبدُ مُهتماً بسرد أحداث، بقدر اهتمامه بتعميق شخصيَّة البطل من خلال أوهامه. ولعلَّ جُزءاً من هذا التوجيه الأخير هو ما أخرج الفيلم عن تصنيف "تاريخ" لعدم اهتمامه بالسياق أصلاً. وإذا سأل القارئ لماذا الاهتمام بالحديث عن تصنيف الفيلم؟ ستكون الإجابة واضحة للغاية؛ إنَّها معرفة ما الذي نشاهده أصلاً، وما الذي ركَّز الفيلم على تقديمه، وما الذي يجب أن ينصبَّ عليه تركيزنا ونحن نشاهده، وما الذي سنُقيِّمه من خلال نجاحه أو فشله في تقديمه.

معنى جانبيّ لمْ يهتمَّ الفيلم ببلورته وهو أنَّ هذا الرجل واجهتُهُ أمام المجتمع أنَّه رجل أعمال لا مُجرم. والحقيقة أنَّ كثيراً من هذه الحالات موجودة في كل الدول حيث نجد رجالاً يفعلون كل الفظائع لصالحهم الخاصّ ويخرجون علينا لامعين مرموقين، بل مُتبرعين بأموالهم التي أتوا بها من جيوب الشعوب لحفنة من فقرائهم في شكل مباشر أو في شكل جمعيَّة تُستخدم هي الأخرى في أعمالهم. فالاسم رجل أعمال، والوصف الحقيقيّ مُجرم عتيد يُحكم قبضته على المجتمع كلَّه دون قدرة للقانون على تعقُّبه لأنَّه باختصار يملك ناصية القانون. ولمْ يهتمَّ الفيلم بالتركيز على الجرائم التي ارتكبها إلا عرَضًا بطريق غير مباشر.

الفيلم من أفلام الشخصيَّات، ومن النوع الذي تتمحور فيه كل الأحداث والمُحركات والالتواءات حول الشخصيَّة الواحدة. أمَّا عن المعنى الأساسيّ في الفيلم هو تلك الحالات النفسيَّة والعقليَّة التي يعيشها البطل. وليس أدلَّ على أنَّه المعنى الأبرز من إفراد مساحات عظمى لهذه الحالات وهذا الجانب في الشخصيَّة، فضلاً عن المُلصق الرسميّ الذي صاغ بدقَّة هدف الفيلم في صورة دماغ كابوني وهي تتطاير وتتفكَّك.

شخصيتنا المُوحَّدة والمُوحِّدة للفيلم هي شخصيَّة مجرم قاسي القلب لا يكترث إلا لصالحه، قد يقتل أيّ شخص يقف في طريقه. وجد في الإجرام قيمةً لأنَّه الذي انتشله من ضياع الفقر والحرمان إلى العيش كالملوك مُطلقي القُدرة. لكنْ ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع؛ ففي سنوات قوته وعنفوانه يُحكَم عليه بالسجن -غالب هذه الحالات تكون باتفاق ضمنيّ بين الدولة ورجال العصابات الأقوياء للتخلص من شخص بالغ النفوذ وليست تطبيقًا للقانون والعدالة-. وفي السجن يتبدَّل الحال بعد الحال؛ فيعود كابوني القوي المُهاب شخصاً ضعيفاً غير ذي ضرر.

وتتكاثف عليه الهموم ليعود مرضه القديم "الزهري" متطورًا إلى "الزهري العصبي" الذي لا يجعله ضعيفًا اجتماعيًّا أو ماليًّا كما صار، بل ضعيفًا داخليًّا ضعفًا لا يمكن تعويضه والارتداد منه كالضعف الأول، ضعفًا يتسرَّب إليه شيئًا فشيئًا ليأتي على كل أركانه ويتركه بنياناً مهدوماً من أُسسه. أصبح بطيء الكلام ثمَّ حُرم منه كليَّةً، أصبح بطيء الحركة ثمَّ حُرم منها كليَّةً، كان بنُدبة على جبينه فصار تشويهات قد تتبين ملامح وجهٍ منها.

وعجب هذا الموقف أنَّ الرجل أصبح حبيس نفسه لحظة بعد لحظة، أصبح وكأنَّه صندوق قديم مُلقًى في بحر مليء بالتموجات والاضطرابات لكنَّ الصندوق ليس فارغاً بل في جوفه الكثير من الأسرار. تلك الأسرار التي لن يفصح عنها ولن تغادره. وفي عالم أسراره يغرقه الوهم ويدخله في مدارات عديدة؛ حتى أصبحت حياته كلّها مدارات سباق من الأوهام بينما يكتفي عالَم الحقيقة بالتصفيق من محل المُشاهدين لنتذكَّر أنَّه موجود.

يتبع

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

القصة الكاملة لـ"العفو العام" من تعريف الإرهابي إلى "تبييض السجون"

الأزمة المالية في كردستان تؤدي إلى تراجع النشاطات الثقافية والفنية

شركات نفط تباشر بالمرحلة الثانية من مشروع تطوير حقل غرب القرنة

سيرك جواد الأسدي تطرح قضايا ساخنة في مسقط

العمود الثامن: بين الخالد والشهرستاني

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

فيلم (أنورا).. ذروةُ مُهَمَّشي سينما بيكر

ترشيح كورالي فارجيت لجائزة الغولدن غلوب عن فيلمها (المادة ): -النساء معتادات على الابتسام، وفي دواخلهن قصص مختلفة !

تجربة في المشاهدة .. يحيى عياش.. المهندس

مقالات ذات صلة

فيلم (أنورا).. ذروةُ مُهَمَّشي سينما بيكر
سينما

فيلم (أنورا).. ذروةُ مُهَمَّشي سينما بيكر

علي الياسريمنذ بداياته لَفَتَ المخرج الامريكي المستقل شون بيكر الانظار لوقائع افلامه بتلك اللمسة الزمنية المُتعلقة بالراهن الحياتي. اعتماده المضارع المستمر لاستعراض شخصياته التي تعيش لحظتها الانية ومن دون استرجاعات او تنبؤات جعله يقدم...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram