لطفية الدليمي
ضمن حوار مع أستاذ الأدب الانكليزي والمنظّر في الأدب مابعد الكولونيالي البروفيسور ) هومي بابا Homi Bhabha ) يفصح عن اعتباره الأدب والفن جزءً جوهريا من حريتنا ، يقول :
" في عالم ذرائعي واستهلاكيّ على نحو متزايد ، أظنّ أنّه من المهمّ أن نضع في مواجهته التطلّعات العظمى للأدب والشعر والرسم والموسيقى ، لأن الفنّ والتجربة الجماليّة يضفيان الحماسة والشغف على مبادئنا ومعتقداتنا. يجب النظر إلى الفنّ كجزء جوهري من حريّتنا، وليس كجزء اختياري منها. "
يؤكد هومي بابا هنا على تشابك المسعى الجمالي الإبداعي مع مفهوم الحرية ، حريتنا التي تقضمها الأنظمة والتقاليد والهوس الاستهلاكي والمجتمعات الراكدة ، وليس سوى الابداع من يرتقي بها ويسندها ، فقد أثبتت الأعمال الفنية والإبداعية الكبرى في كل البلدان و على مر العصور ، قدرتها على تعزيز مسوغات الأمل في النفوس المحبطة واستنباط وسائل دعم روحية وإسناد نفسي للنهوض بمهام الحياة اليومية من جانب ، و حث البشر على مواصلة الكفاح من أجل حريتهم وعيشهم الراهن وأحلام غدهم .
تساعد الفنون مجتمعة على الارتقاء بالحياة الإنسانية في الوقت الذي تثري مخيلات البشر وترهف أحاسيسهم وترتقي بتطلعاتهم ؛ فتحفزهم على تذوق الجمال واعتناق قيمه ، وكلما كانت مفاعيل الآداب والفنون والموسيقى محسوسة ومؤثرة في مجتمع ما ، كلما أصبحت دافعاً محرضاً على الإنجاز و تحسين أساليب العيش و بعث الشغف من سباته وإيقاد شعلة الحماسة التي خبت تحت رماد القهر و الحرمان .
ثمة شعوب تنام وتصحو على أنغام الموسيقى الصادحة : فرق موسيقية وعازفون وعازفات في المحطات والطرقات ، ومكبرات صوت في بعض الساحات تبث السيمفونيات والسوناتات ؛ وفرق راقصة تقدم فولكلور شعوبها ومسرحيات موسيقية في مسارح على عدد أحياء المدينة الواحدة ، وبعضها يعرض على منصات المتنزهات الكبرى و المقاهي ، وشتان بين هذه الشعوب التي تتدفق الموسيقى بين أنفاسها وخطواتها وتُمتع أنظارها بالنصب والتماثيل الرائعة التي أبدعها فنانون كبار وتجملت بها الساحات والشوارع والمؤسسات ، وبين شعوب صودرت حياتها بحرمانها من الخدمات الأساسية و بهجة التمتع بالفنون الرفيعة التي تشفي النفوس والأجساد من تراكمات اليأس والحزن وكآبات افتقاد الحرية ، شعوب أغرقوها بالنحيب و السواد و الأحزان المؤبدة ، فانكمشت حريتها و وهن شغفها وحيل بينها وبين أسباب الفرح ؛ فورثت العجز والعنف والتخاذل.
تصوغ الآداب والفنون الرفيعة أمزجة الشعوب وتضخ في عروق الناس دفقات من النشوة تدفع بهم للتمسك بحريتهم واجتراح سبل مبتكرة لتحسين الحياة وتطويرها ؛ لانطواء الفنون على شحنات منشطة تماثل القوى السحرية التي كانت للأساطير والحكايات التي يرويها الحكاؤون صحبة عازف أو راقص أو ممثل إيمائي أمام تجمعات بشرية في أفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا ؛ فتدفع تلك القوى المنعشة بالإنسان إلى تجاوز عجزه وإطلاق قدراته الحبيسة وانبثاق رؤى ملهمة لديه تعزز الشغف وتحفز لمواجهة صعوبات العيش اليومية ، مثلما تعينه القراءة والموسيقى على تحمل مفاعيل الكوارث التي تحيق بعالمنا ، فكم من قطعة موسيقية باهرة شحذت المخيلة وارتقت بالأرواح وحفزتها لتذوق تجليات الجمال ؟ وكم من قصة أو رواية شحذت همم الرجال والنساء وبثت فيهم الحماسة للعمل والتشبث بحريتهم والدفاع عن مواقفهم ؟ وكم من تجربة إنسانية ناجحة تروى فترفع مستوى هرمونات السعادة لدى كثير من اليائسين ؟
أجل بمستطاع الإبداع إنجاز الكثير مما عجزت السياسات والآيديولوجيات
عن إنجازه ، لاشتباك الفعل الإبداعي مع جوهر الحرية .