ستار كاووش
إكتمل تعليق لوحات المعرض في متحف العالم بمدينة روتردام، ونحن بإنتظار الافتتاح، وقتها لم يمض وقت طويل على وجودي في هولندا، يملؤني الحماس، لا يُوقَف اندفاعي شيء ولا حدود لطموحي.
قبل الافتتاح بيومين إتصلت بي مديرة المتحف شارلوتا هاوخنس قائلة، سيحضر شخص من راديو روتردام وقد إتفقتُ معه على أن يسجل معك حواراً سيبث في أحد البرامج الثقافية، فأجبتها (لا أعتقد بأن لغتي الهولندية يمكن أن تسعفني الآن لهكذا حوار) فأجابتني قائلة (ألا تتكلم معي الآن باللغة الهولندية؟ تحدث معه مثلما تتحدث معي الآن، وسيكون كل شيء على ما يرام) ثم أردفت (ربما سيحذف كلمة هنا أو هناك، إن ظَهَرتْ بشكل غير مناسب، لكنك يجب أن تقوم بهذه الخطوة، كي تمضي الى الأمام فيما بعد) وهنا عرفت المثل الهولندي الذي يقول (البداية الجيدة تساوي نصف العمل) كما تعرفت على شارلوتا الإنسانة والمبدعة والشخصية المرموقة في الوسط التشكيلي الهولندي، والتي شغلت مناصب عديدة في متاحف مهمة ومختلفة في هولندا واسمها حاضر في الكثير من الفعاليات الثقافية والتشكيلية.
حضرت الى المتحف، وأثناء الحوار وَقَفَتْ شارلوتا خلف الرجل الذي كان يحاورني دون علمهِ، ومع كل جملة أقولها كانت تحرك قبضتيها وترفع إبهاميها الى الأعلى، إشارة الى أن كل شيء جيد، ولتشجيعي على الاستمرار بالحديث. عند نهاية المعرض أخذتني بجولة في المتحف، لرؤية ما يُعرَف ب (قاعة الكنوز)، ولما لاحَظَتْ دهشتي وأنا أتطلع الى المنمنمات والمخطوطات العربية والاسلامية القديمة، بخطوطها وزخارفها الذهبية التي تُذهِبُ العقل وتفتن الروح، قالت لي (هل تعرف ياستار، حتى الأشخاص الذين لا يستطيعون قراءة حرف واحد مما هو مكتوب هنا سيتفاعلون بنفس المقدار مع هذه الكنوز لأنها تملك طاقة داخلية وسطوة عجيبة على العين) وهنا عرفت قصدها حول حوار الراديو، حيث يكون الفن الخالص هو اللغة، أما الحديث والكلمات فستأتي لاحقاً وهي تكمل الموضوع لا أكثر.
مرَّ الوقت وقد انتقلت شارلوتا الى متحف بانوراما مسداخ لتديره، إضافة الى عملها في مؤسسة موندريان، كما أقمت أنا أكثر من ثلاثين معرضاً في مختلف المدن الهولندية، لنتفق بعد خمسة عشر عاماً من ذلك اللقاء الأول، على أن تكتب مقدمة الكتاب الذي صدر عن أعمالي في هولندا (نساء التركواز)، ولم تكتفِ بكتابة المقدمة المذهلة، بل حضرت من مدينة لاهاي التي تعيش فيها الى شمالي هولندا لتلقي كلمة في الافتتاح الذي صاحب توقيع الكتاب أيضاً. إتفقنا يومها أن تحضر الى المرسم أولاً، كي نتناول بعض الطعام ونتوجه بعدها للمعرض، فقمتُ بتهيئة المائدة بشكل جيد، وعند وصول سيارتها لمحتُ معها صديقة أخرى في السيارة، فغيرتُ ترتيب الطاولة بسرعة مذهلة، بشكل يتيح وضع طبق إضافي للضيفة الجديدة، وحين دخلتا المرسم، وبنباهة وحساسية المرأة العارفة قالت (آه كم أنت لمّاح ياستار لأنك هيأت المكان لشخص إضافي رغم إنك لا تعلم بمجيء صديقتي معي)، وفي الظهيرة توجهنا نحو مؤسسة لافاي لإفتتاح معرضي (بغداد في الشمال).
مضت الأيام وقد أخذ الكتاب مكانه في الكثير من المكتبات، لأتصل بها واخبرها بأنني سأكون في لاهاي وسأزور متحف بانوراما مسداخ (الذي تديره) لتجيبني (عظيم، يسعدني ذلك. عندي موعد مع إحدى المؤسسات الفنية في ذات اليوم مع الأسف، لكني سأترك لك عند الاستعلامات تذكرة شرفية للدخول، ثم تأتي لتناول الغداء في بيتي، وهكذا زرت المتحف ثم بيتها، لأطلع على مكتبتها العظيمة التي تصل السقف، وكذلك اللوحات المختلفة التي زينت جدران البيت. كان وقتاً ممتعاً بصحبتها وقد فاجأتني بالكثير من الأكلات العربية والشرقية، وقبل أن اذهب دست في حقيبتي كيساً صغيراً مليء بالزعتر التي اتضح لي بأنها تحبه أيضاً، قائلة (أشتريتُ اثنين، واحد لك والآخر لي) عانقتها وأنا أفكر بمواقفها العظيمة، وودعتها وأنا أضع يدي بيدها الممدودة بالمحبة وروح المبادرة والكرم والجمال.