TOP

جريدة المدى > عام > قداسة الطين في الأسطورة والدين

قداسة الطين في الأسطورة والدين

نشر في: 15 يونيو, 2020: 05:49 م

ناجح المعموري

2-2

حصل في أسطورة الخلق الفينيقية تمازج الريح مع مكوناتها واختلطت ، وهكذا مبدأ خلق الأشياء جميعاً ــ كما قال السوّاح ــ ولم يكن للريح معرفة بما فعلت .

نتج من تمازج الريح " موت " الذي كان عبارة عن كتلة طين ، أو مجموعة من العناصر المائية المتخمرة وكانت بذرة الخلق .

ولأن الطين مادة الخلق في أكثر الحضارات وحرصت الإلهة الأمّ إنتاج ما تريده في حياتنا اليومية ، وتميزت بمهارة عالية في إنتاج الفخاريات الكثيرة ذات الوظائف المرتبطة بعناصره الاتصالي المستمر مع الإلوهة المذكرة ، وتسيّدت كثيراً في النماذج الفخارية المدورة ، لتعبر رمزياً عن المرأة / الانثى بوصفها رحماً مولداً وأشار الاستاذ فراس السواح أن أرتيمس ظهرت كإلهة أمّ زراعية ، هي ومثيلتها تماثيل افسوس في هيئة ممتلئة وقد تزاحم في صدرها عشرات الاثداء كالجرة الفخارية .

وأشار السواح أن جسد الأنثى الكونية هو الجرة الفخارية التي تحتوي على نعم الحياة وأسبابها ثم نطلقها الى نحو الخارج وانتقلت تقاليد صناعة الجرة المقدسة من العصور النيوليتية التي حفلت بها الى عصور الكتابة ، وتعددت أنماط صناعتها ومعظمها يصير الجرة المقدسة بالأثداء الأنثوية التي هي مركز الفضاء في جسد المرأة . فقد تضع الجرة على هيئة جسم كروي ذي عنق قصير يليه ثديان وسرة واضحة . وملاحظة للفخاريات سنجد بأنها قد اتخذت شكلاً أنثوياً ، لا بل شكل رحمها واستعملتها مخازن للعطور ، وحتى هذه اللحظة في الأرياف وخمرت بها النبيذ وحفظت فيها السموم . وكما قال الأستاذ السواح للجرة قيمة رمزية في تكوين تقاليد وعادات الدفن .... فبالإضافة الى كون مريم الوعاء الذي احتوى الإله الكوني نفسه فإنها الجرة التي تهب البشر حياة وغذاء حيث ورد في أحد مدائحها : "

السلام عليك يا جرة تحوي المن المحكي حواس الاتقياء ، السلام عليك يا غذاء يقوم بدل المن " 

ولأن الأرض هي التي ولدت الإنسان وصارت أمّاً رمزية له فانها تستعيده مثل النبات كله ، ينبعث منها ويمر بدورته المعروفة حتى يعود ثانية إليها تميزت الجرة التي هي رحم الأمّ الكبرى باستعادتها الرمزية لابنها المخلق ، ولذا تم اختبار الجرار الواسعة مدفناً للموتى في فلسطين وكما قال السواح الجرة الفخارية هي الرحم الذي يطلق الإنسان الى الحياة ، والرحم الذي يستعيده إليه ثانية بعد الموت . كما شاعت عادة دفن الموتى أو دفن رمادهم في الجرار خلال العصر البرونزي وفي جزر بحر إيجه وآسيا الصغرى وإيطاليا وفي أمريكا الجنوبية ، كما صار للجرار المقدسة قيمة طقسية كثيرة لدى العديد من الديانات عصور الكتابة ، من ذلك ملأ الجرار الفخارية التي كانت تستخدمها عذراوات النار المقدسة في هياكل عشتار ، ومن ذلك أيضاً الجرة المقدسة كما أكد على ذلك السواح ــ التي كان يحفظها العبرانيون داخل تابوت العهد مع لوحي الوصايا والتي يعتقد بأنها تحتوي على بعض من المنّ الذي نزل عليهم في سيناء . إلا أن مريم العذراء أعادت لهذه الجرة العبرانية المقدسة صلتها المباشرة بالأمّ الكبرى كما قال السواح . 

قال الاستاذ د. ياسين النصير : سور الطين ليس هو الحاجز بين المساحات أو علامة للتملك ، بل هو غريزة الدفاع عن الحياة بمنع ضغوط العالم الخارجي . لذا تكون العلاقة معه ، علاقة تعبيرية ، خربشة أو تهديماً أو بناء أو كتابة ، كلها أفعال تعبير عن مشاعر وتكوينات مدفونة في الذات الجمعية لتجسيد العلاقة بين الإنسان وميثولوجيته الغائرة في أشيائه . العلاقة مع الطين علاقة الجسد الحي بالموت وتكون الأسرة الشعبية ومظاهر حياتها اليومية لغة عالية التركيب . 

واللِبن الذي يبني به الإنسان مسكناً أو معبداً ، هو الآخر غير المشوي ، وهي لفظة أكدية مطابقة للفظة العربية والعلاقة الرمزية / والدينية بين المسكن والمعبد وبين القبر / الرحم الذي يعود إليه الإنسان بعد موته ، واضحة والمشتركات بينها واضحة ، هي المكان الذي يعود إليه الإنسان من أجل الراحة .

كما أن العلاقة بين " آدم " و " أدمة " التي تضيء أرض ، تراب ، وذلك بالاستناد الى التوراة في سفر التكوين 7:2 وجبل الرب آدم ترابا من الأرض ، ونفح في أنفه نسمة الحياة . ومن معاني الأدمة العربية باطن الأرض والأديم : وجهها . وكانت العلاقة بين البشر والطين معروفة في آداب بلاد النهرين ومصر . وتضمن القرآن الكريم إشارات عديدة للطين ومنها على سبيل المثال وليس الحصر : (( إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير )) الاية 49آل عمران ( هو الذي خلقكم من طين ثم قضى آجلاً ) الاية : 2 الانعام ( إنا خلقناهم من طين لازب ) الآية 11 الصافات) . 

محادثة في مسألة الطين 

نشر الشاعر هاشم شفيق نصاً شعرياً في مجلة الطريق / العدد 5 / 2002 أعاد فيه توظيف عنصر الطين واستثمر طاقته الأسطورية ومنه :

[ أنتَ هناك على الطين ، على الدهلة تنثر نفسك ، تفرشها فوق الطين سماطاً ، تفخرُ ذاتك صلصالاً أحمر مشوياً في الجرّة والكيزان ، وفي الدهلة من طين الزقورة والملويّة ، في الأعمق تدخل ، في ذرات تراب الأسطورة ، حتى تنجز أسطورة نفسك في الطين ودهلته .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

النوبة الفنيّة أو متلازمة ستاندال

علاقة الوعي بالمعنى والغاية في حياتنا

تخاطر من ماء وقصَب

موسيقى الاحد: كونشرتو البيانو الثالث لبيتهوفن

التقاليد السردية بين الأصالة والأقلمة

مقالات ذات صلة

أدباء: الشعر لم يخل عرشه فما زال يتشبث وأثبت بأنه يحتفظ بالقدرة على التنويع والتجديد
عام

أدباء: الشعر لم يخل عرشه فما زال يتشبث وأثبت بأنه يحتفظ بالقدرة على التنويع والتجديد

علاء المفرجي يرى الكثير من القراء والنقاد انه كان للرواية ظهور واضح في المشهد الأدبي العراقي خلال العقود الثلاث الأخيرة، فهل استطاعت الرواية أن تزيح الشعر من عليائه؟ خاصة والكثير من الشعراء دخلوا مجال...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram