علي حسن الفواز البحث في العوالم التي تستولدها ذاكرة المكان العراقي تعدّ من المغامرات التي تفترض توغلا حسيا في جينالوجيا هذا المكان، مثلما هو توغل في اسراره وفي تفاصيل جغرافيته، وفي ربما انحناء على الجانب الاخر من مثيولوجيا تلك الذاكرة..
اذ تكون الذاكرة هي الخزان اللامتناهي للانفعالات، والتكوين الغرائبي للصور التي تساكن الحافات المفتوحة على اغتراب الزمن والخطاب، خاصة تلك تنسل من وقائع الإنسان الى اسفاره المثيولوجية توالياته الغائرة في اسفار الخلود والسحر والرحيل، حيث تكون مدونات هذا الإنسان هي الخطوط والرقى والاناشيد التي تترسم هجراته في المعنى. الفنان العراقي القديم ادرك هذه اللعبة القديمة، لعبة الخلود في الالواح، وعلى السطوح، وفي الأناشيد، لذا ابتكر الأساطير وملاحم الخصب والحكمة، واقتراح الهجرات الى الغابات والبراري، واختار الخلان الذين يشاطرون الجسد غواياته ومتاهاته واحساسه المضني والعميق بالموت عبر خطيئة الفقدان.لذا بات الطريق الى حيازة شروط هذه اللعبة هو تدوين مثيولوجيا الامكنة، والغوص في تراجيدياتها، اذ يكون الانسان العارف هو حامل الفاس الاولى، وسارق النار الاول الذي يبتكر طرق الحرير الى اكتشاف سرّ المعرفة والنور وسر وجوده وشفرات خلوده.في كتاب (ياسين المحمداوي/مثيولوجيا سومرية وتراجيديا مبكرة) للباحث والمعماري د.احسان فتحي الصادر عن سلسلة ابداعات فنية/دار الاديب للصحافة والنشر 2009/عمان/ الاردن والذي ينحني على قراءة حياة الفنان العراقي الراحل ياسين المحمداوي (1956-2003) الذي استغرقته عوالم السحر السومري فاوغل فيها باحثا عن خلدوه الشخصي، تماهيا مع اسطورة الخلود الكلكامشي واسفاره في المكان والجسد واللذة والمعرفة والبطولة.الكتاب يشبه الوثيقة الصورية التي تسعى الى خلود صاحبها في المعنى، في تشكيلات الخطوط، وكأنها الحافظ لأثر قديم، او ايقونة سومرية تحمل في جوهرها الطيني سرا غامضا لوجود غارق في سحره وفي علاماته الغامضة، اذ يحضر بين تلك الخطوط وجه المحمداوي الاثير بسحنته السومرية.شخوصه يحملون سر خطوطه، تلاوينهم الترابية التي تحمل جوهر الخلق، وهذا التركيب بين الشخصية/ الكائن، وبين تكوين خطوطها الباعثة على التأمل الفلسفي، والاثارة اللونية، يمثل واحده من الاسرار التي ظلت خفية في (خلطتها) وكما يقول احسان فتحي، (جرب ياسين مواد بديلة، مواد اخرى غير الزيت والاكريليك، فوجد ضالته في خلطة سرية لم يكشف عنها.كانت هذه التركيبة من المواد المختلفة او مايسمى بـ((Maxed Media) في الانجليزية قد منحته انطلاقة مذهلة في عالم التشكيل الفني الملمسي (Textured Art) حيث الابعاد الثلاثة..والغوائر والتعرجات والنتوءات..الخربشة والتصدع..الالوان المتصدئة بفعل الزمن..الوان قليلة اقرب الى المونوكروم (Monochrome)لكنها مؤثرة) ص46.هذه الخلطة، قد تكون هي ذاتها عشبة اوتونابشتم التي تاه عنها كلكامش، تلك التي استغرقته في اسفاره الغرائبية في اوروك وفي غابات الارز، والتي تركته نهبا لحسد الاخرين الذين قد يتمثلهم (خمبابا)كما في الاساطير السومرية.اشتغالات ياسين المحمداوي عمدت الى ملامسة تفاصيل المكان في البيئة الجنوبية خاصة في مدينة العمارة، اذ ظل هاجس هذه المدينة يلاحق خطوطه وتشكيلاته ويساكنها، مثلما كان انشداده الى حيوات هذه البيئة بكل ما تحمله من مظاهر وتجليات و(تشكيلات هندسية وحيوانات وطيور وجمال) ص46.هذه الاشتغالات لم تكن عابرة او محاولة في تقليد رسوم الاخرين الذين وجدوا في هذه الفضاءات مجالا مفتوحا للتعاطي مع موضوعات الحياة والموت في الموروث السومري، بقدر ما كانت تحمل هذه اللوحات عبر خطوطها وعبر كتلها اللونية والتشخيصية فرادة اسلوبه الذي نهل من فكرة البيئة كسطح معماري، وكسطح مائي، وطبيعة زاخرة بالاسرار والاسحار الكثير من التشكلات التي تلامس افكار الحياة في خصبها وانبعاثها، مثلما استغور فكرة الحرب التي كان يكرهها لان ضحاياها اهله واصدقائه، والتي ظلت جزءا من هاجسه الذي نتلمسه في قلق وجوه شخوصه الشاحبة، وشفراتهم التي تحمل نزوعا تعبيريا رمزيا مسكونا بطقوس الانسان العراقي الجنوبي وهو يبحث عن شفرات خلوده وبقائه وخصبه وفرحه رغم كل ما يحوطه من البؤس والحزن..في لوحات المحمداوي عوالم مشوبة بسحر الطبيعة وسحر الانسان الباحث عن وهم خلوده، وكلاهما يستدعي الى لوحته تفاصيل هذه الطبيعة، تفاصيلها واساطيرها الشعبية، اذ يمثل (هذا العالم الساحر بكل شخصياته واساطيره عالم عبد الشط، والسعلوة، وخمبابا، شكل الاطار التشكيلي العام في اعمال ياسين، وكان هو النبع الغزير الذي نهل منه بنهم شديد، وبتنا نرى اناسا عديدين في العمل الفني الواحد، وجوه عجيبة، ضاحكة حزينة، نساء يرقصن على ايقاع الطبول وصوت المزمار والرق، فلاحات يحملن الاطباق المليئة بالاسماك او الفاكهة على رؤوسهن. عشاق تحت النخيل..عربات تجرها الحمير..اناس يسبحون في الاهوار مع الجاموس..اكواخ وبيوت من القصب..مشاحيف..راعي الماعز..حيوانات عديدة..اناس نيام..وحوش) ص40.rnالملامح الاولىياسين المحمداوي كثير القلق في بحثه عن الهوية وعن الوجود،
ياسين المحمداوي: ثمة من يستعيد ذاكرة التراب!
نشر في: 11 مايو, 2010: 06:34 م