TOP

جريدة المدى > سينما > فيلم كابوني .. مدارات الوهم الإنسانيّ

فيلم كابوني .. مدارات الوهم الإنسانيّ

نشر في: 17 يونيو, 2020: 05:55 م

عبد المنعم أديب

2-2

يفارق بطلنا عالمه الواقعيّ ليسبح وحده في عالم مغاير، عالمه القديم الذي كان يمتلكه أو مملكته التي كان الآمر الناهي فيها.

لكنْ في استعراضه لماضيه -الذي كان برَّاقاً وقتها- ما عاد الشخص نفسه. فالمجرم العتيد صار طفلاً ليس فقط في هيئة نُطقه للكلام، ولا في مشيته المُعوجَّة، ولا لُعابه الذي لا يستطيع إيقافه، ولا في احتياجه إلى مَن يدخل الطعام والشراب إلى جوفه، ولا في عمليَّات التبول والتبرُّز التي لا يقدر على التحكُّم فيها.

كل هذه الملامح قد تُستقبح حينما نراها؛ لكنَّ بطلنا صار طفلاً أيضاً في نفسيته وعقله، عاد بريئاً كما كان أوَّل الأمر، عاد ليختبر كل ما حوله في عالَمَيْ الحقيقة والوهم من شخوص وأفعال. فرأى نفسه يُنكر ما كان يفعل ويستبشع ما كان به يأمر، بل فزع من رؤية نفسه في المِرآة من أول وهلة رأى فيها صورته القديمة القاسية. وها هو الإنسان حينما يختبر ما قد فعل في ظلّ ظروف مُحايدة، لا في ظل الظروف التي أحاطت به وقت فعل الأفعال نفسها. وكمْ تغيَّر تقييم الفعل وتقريره من الإنسان نفسه في ظلّ ظروف مُختلفة. فيا للإنسان من كائن بالغ التعقيد! ويا لهذه الدنيا العجيبة!

ونستطيع أنْ نفرِّق في الشخصيَّات التي صنعها الفيلم بين فريقَيْن: شخصيات الحقيقة والتي منها الزوجة التي صارت أسعد حالاً نفسيّاً بعدما ترك زوجها حياة الجريمة، فقد كانت تبحث كل هذه العقود عن لحظات هدوء. وهي تمتلك ناصية بطلنا كل الامتلاك تقدر على التحكُّم فيه بمجرد كلمة أو صيحة. وهو يرتاح إلى هذا التحكُّم الذي به يطمئن على نفسه رغم ما قد يبدو من قلاقل الماضي وبعض الرواسب.

وهناك العائلة: أخوه، وأمُّه، ابنه الرسميّ وابنه الذي ينكر وجوده ثم يتغيَّر موقفه تجاهه، وجينو القاتل المجرم الذي كان مُساعده في الماضي ثم صار يمقته بطلنا أشدّ المقت بعد كبوته هذه وهو يسترجع ذكرياته الأليمة معه في جرائمهما خاصّةً أنَّه مَنْ أجهز على صديق عُمره "جوني". وهناك الطبيب الذي يعمل مع الشرطة والذي يقترح إلباس كابوني حفَّاظات إخراجات كالتي يرتديها الأطفال. وهناك الشرطة التي تراقبه والتي كان يصارعها في أوَّل مرضه ثمَّ تأرجح في موقفه منها في شعور منه بألَّا داعي لتحرُّك يُذكر حين ترك الشرطيّ الذي يراقبه في الحمَّام بعد اكتشافه.

والفريق الآخر من الشخصيات هي شخوص الوهم التي تظهر في مدارات الوهم العديدة. ومنها: جوني صديقه الذي أمر كابوني بقتله لاعتقاده أنَّه خانه، أو في لحظات فرط القوَّة حينما يحسّ الإنسان فيه أنْ لنْ يقدر عليه أحد وأنَّه كفيل وحده بإكمال الطريق. ثم اكتشف مدى افتقاره لهذا الصديق الذي سارع في استدعائه لعالَمه الشخصيّ والدوران معه في مدارات الوهم. وثاني الشخصيات هي شخصية ولد صغير يُمسك بالوناً أصفر رسمه كابوني وكتب جواره "توني" وهو اسم ابنه الذي ينكره. لكنَّ تعميق الشخصيَّة قد يُفضي إلى أنَّه مُعادل موضوعيّ لكابوني نفسه وقتما كان صغيراً بريئاً أو أنَّه معادل موضوعيّ للبراءة ضدّ الإجرام؛ فهو الذي يسوقه إلى أوهام الإجرام القديمة، وهو الذي يلقاه على شاطئ البحيرة الصافية الهادئة في أحلامه.

وذروة علاقة البطل مع عالم الأوهام هو وصوله إلى البحيرة الهادئة الصافية التي تناقض حياة إجرامه الطويلة، وذروة موقف البطل من عالم الحقيقة هي ما نراه في مدار طويل من مدارات الوهم حينما يترجَّل كابوني لابسًا معطف البيت وحفَّاظ إخراجات كالأطفال، وبين شفتيه جزرة يدخِّنها بدلاً عن السيجارة وقد أمسك برشاش مُطلِقًا على الجميع رصاصاته العديدة في لحظة تطهيريَّة خالصة. ونتذكر حينها نصيحة صديقه في إحدى مدارات الوهم بأنْ يتخلص من التماسيح فها هو قد قرَّر أنْ يتخلَّص من كل التماسيح التي تحيط به؛ من رجال الإجرام القُدامى، ومن الطامعين المنتظرين كنزه المُخبَّأ، ومن الشرطة التي تراقبه ليل نهار.

هكذا تكوَّن فيلمنا من مدارات وهم عظمى وصغرى، وتداخلات من عالَم الحقيقة وكلاهما يلتفّ فوق الآخر حتى يصنع مُكوَّناً قد يصيبك ببعض الغموض في لحظات قليلة. وسبب ذلك أنَّ المخرج استخدام الأدوات نفسها في عالَمَيْ الحقيقة والوهم. فاللوحات التي يراها بطلنا في الحقيقة تتشكَّل حسب وهمه في لحظات، وتُشكِّل هي نفسها وهمه في لحظات باستدعائها لأشياء بعينها في تاريخه. والمِذياع (الراديو) الذي ينقل له الأخبار في الحقيقة يصمت فجأةً لينقل له بعض تاريخه، أو لينقُله فجأةً إلى قلب الحدث، أو يبني ما قد يُمهِّد للمشهد القادم. لكنْ يلحظ المُشاهد أنَّ الأوهام لا تتحرك إلا بإذن من بطلنا فمثلاً مشهد الوهم الطويل (بعد أربعين دقيقةً من البدء) لا يتصاعد صوته ولا حركته إلا بعد قراره بتفاعله معها.

ولا شكَّ أن الملمح الفنيّ الأبرز لفيلم الدراما المعنويَّة هذا هو التمثيل الذي من شدَّة ظهور تميُّزه لمْ يعد في حاجة إلى تأكيد. ومطالعة أيّ مشهد لبطل الفيلم "توم هاردي" قادرة وحدها على أنْ تثبت تفوقه وبراعته ودقَّة اهتمامه واستحضاره لما سيفعل وما سيحسّ وما سيعيش معيشةً تامَّة. وقد تحتاج القيمة التمثيليَّة في هذا الفيلم لمقال طويل لاستعراض فنيَّاتها، وقد يكتفي الذكيّ بكل هذه المعاني التي مكَّنَّنا من إدراكها جميعاً امتلاك هذا الممثل لأدوات فنِّه وفي هذا القول وحده الكثير من المعاني المُغنية عن الإطالة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. علي

    المقال حلو بعد إكماله والفيلم قوي بالذات تمثيل البطل

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

فيلم (أنورا).. ذروةُ مُهَمَّشي سينما بيكر

ترشيح كورالي فارجيت لجائزة الغولدن غلوب عن فيلمها (المادة ): -النساء معتادات على الابتسام، وفي دواخلهن قصص مختلفة !

تجربة في المشاهدة .. يحيى عياش.. المهندس

مقالات ذات صلة

فيلم (أنورا).. ذروةُ مُهَمَّشي سينما بيكر
سينما

فيلم (أنورا).. ذروةُ مُهَمَّشي سينما بيكر

علي الياسريمنذ بداياته لَفَتَ المخرج الامريكي المستقل شون بيكر الانظار لوقائع افلامه بتلك اللمسة الزمنية المُتعلقة بالراهن الحياتي. اعتماده المضارع المستمر لاستعراض شخصياته التي تعيش لحظتها الانية ومن دون استرجاعات او تنبؤات جعله يقدم...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram